عام هجري جديد نستقبله ورغم أن هذه المناسبة تحتوي الكثير من الدروس المستفادة والعظات والعبر إلا أن المسلمين في العصر الحديث لم يستفيدوا منها وينظروا للمناسبة علي أنها وقتية فقط ومادة منبرية لإلهاب مشاعر الناس متناسين أنهم لو طبقوا دروسها في حياتهم لحصدوا سعادة الدنيا والآخرة.. ولو تأملوا وثيقة المدينة لوجدوها أعظم دستور من الممكن أن يستعينوا به في وضعهم للدستور المعدل الذي يجري التصويت عليه هذه الأيام. أكد علماء الأزهر أن ما يحدث هذه الأيام من أعمال فوضوية وتخريبية أكبر دليل علي عدم حب الناس للوطن حيث لم يعد لديهم انتماء له عكس ما قام به الرسول صلي الله عليه وسلم عندما أرسي حب الانتماء في المجتمع الجديد الذي أسسه بعد هجرته المباركة. د.عبدالفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر يري أن الانتماء إلي الوطن يعتبر من أهم الدروس المستفادة من ذكري الهجرة النبوية فهذه قيمة افتقدناها في زماننا هذا وخاصة من بعض الذين عميت بصائرهم فلم يروا من دنياهم إلا ملذاتهم وأطماعهم الدنيئة وأساليبهم البعيدة عن أي خلق إنساني سماوي أو غير سماوي وفي سبيل أطماعهم تلك يهون كل شيء في نظرهم يهون المواطن ويخرب ويمتهن ويستذل أهله وتراق دماؤهم وتسلب أموالهم وتنتهك حرماتهم. أضاف أن هجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة مظهرة هذه القيمة لتبرز من حب رسول الله صلي الله عليه وسلم وانتمائه إلي مكة ولقد بين الحق سبحانه أنه وجود الناس في هذه الأرض لغاضة وهو إعمارها قال تعالي: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" وقال جل شأنه: "هو الذي جعلكم خلائف في الأرض" وخليفة الله في أرضه إنما ينتمي إلي هذه الأرض التي استخلفه الله فيها فهو يتخذ من الوسائل ما يتحقق به إعمارها ولذا فإن الانتماء إلي الأرض أو إلي جماعة أو أسرة أو نحو ذلك قيمة وخلق إسلامي وقد ضرب رسول الله صلي الله عليه وسلم المثل للناس بانتمائه إلي مكة وحبه لها يدل لذلك ما صدر عنه بعد خروجه منها مهاجرا إلي المدينة حيث توجه إلي مكة وقال: "أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إليّ وأكرمه علي الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت" بهذه الكلمات التي تفيض حبا وانتماء إلي بلد الله الحرام يودع رسول الله صلي الله عليه وسلم بلده التي نشأ في ربوعها وبعث فيها ومارس دعوته إلي الله سبحانه بين أهلها فكانت هجرته مظهرة لهذا الانتماء لبلد الله الحرام. دروس وعبر حث الدكتور حسين شحاتة الأستاذ بجامعة الأزهر المسلمين علي تدبر حدث الهجرة العظيم لاستنباط الدروس والعبر التي ينتفعون بها في حاضرهم ومستقبلهم وبما يساهم في تطوير الدعوة الإسلامية.. فالهجرة بها من المناهج الإيمانية والأخلاقية والسلوكية والتربوية والأسس الاقتصادية والاستراتيجيات الإدارية التي لو طبقت علي مستوي الأسرة والمجتمع لتحققت نهضة تنموية كبيرة للأمة الإسلامية. أضاف أن الرسول محمد صلي الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلي المدينة كان يهدف إلي إقامة دين الله ونشر رسالة التوحيد والانطلاق بها إلي كافة أقطار الأرض بالإضافة إلي حماية المسلمين من بطش المشركين وتأسيس الدولة المدنية الجديدة ذات المرجعية الإسلامية يكون قوامها تطبيق شرع الله في مجتمع متآخ متحاب مترابط. أشار د.شحاتة إلي أن أهداف الهجرة تحققت فتم إعلاء كلمة الحق ودخل الناس في دين الله أفواجا وانطلقت دعوة الإسلام إلي كافة ربوع الأرض.. كذلك عاش المسلمون في أمن وسكينة وتم بناء المجتمع الإسلامي المترابط الذي قال عنه صلي الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي" كما تم تأسيس الدولة الإسلامية التي تحكم بمباديء الشريعة الإسلامية في كافة نواحي الحياة. في النهاية دعا د.شحاتة كل داعية إلي الله أن يستفيد من دروس وعبر الهجرة ينهض بالدعوة الإسلامية فيحدد هدفه وغايته ثم يضع السياسات التي تجنبه العشوائية علي أن يقرن التوكل علي الله الأخذ بالأسباب وهجرة التفرق والاختلاف والإيمان بأن نصر الله آت إذا ما أخلص النية مع الله. تغيير في الموقع يقول د.زكي عثمان الأستاذ بجامعة الأزهر إن الهجرة تغيير في الموقع وليست تغييرا في الموقف لأنها أشارت إلي أن المباديء ينبغي أن تتخذ لنفسها موقعا لتبليغ رسالتها عندما يصعب عليها أن تخترق الحصار.. وعندما يحاصر أصحاب المبدأ ويحال بينهم وبين تبليغ رسالته.. وهذا هو الذي حدث في هجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما حوصر في مكة وفي الطائف وأصبح لا طريق له إلا أن يغير الموقع توصلا إلي الطريق الأمثل لتبليغ دعوته.. ولو أنه استمر في مكة ولم يهاجر فمن المؤكد أن نهاية رسالته تفرض عليه أقدارا أخري كما فرضت علي من سبقه من الأنبياء. أضاف أنه لما كان الإسلام هو الرسالة الخاتمة التي لابد أن تبقي إلي يوم القيامة فقد تعين أن يغير النبي موقعه حتي يجد الفرصة سانحة لتبليغ الرسالة دون مزيد من العقبات كذلك فإن هذا العام شهد تحركا خارج المدينة إذا أقبلت كل قبائل العرب تعلن إسلامها حتي إن المدينة استقبلت أكثر من سبعين وفدا بممثلين عن التجمعات العربية يعلنون ولاءهم للسلطة الجديدة وإيمانهم بالرسول صلي الله عليه وسلم ودعوته وكان هذا إيذانا بأن الدعوة التي حوصرت في مكة قد وجدت طريقها لتحقيق عموم الرسالة وشمولها فما كان الرسول محمد نبيا لقومه وإنما كان نبيا للناس كافة كما يقول القرآن: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا".. ولولا الهجرة لما تمكن النبي من هذا التبليغ العام الشامل. أشار د.عثمان إلي أنه يجب علينا أن نستفيد من دروس الهجرة أيضا عند وضع بنود الدستور المعدل فالرسول استعان بوثيقة المدينة التي تعد دستورا شاملا حقق فيه العدل والمواطنة والتسامح والمساواة وكفل فيه جميع حقوق الإنسان.