ومضت في ذهني بارقة أننا في أول أغسطس وأن ذكري الراحل الجميل نجيب محفوظ تأتي في الثلاثين من الشهر الفائت لا أكون مبالغاً لو قلت أن قامته كانت ولا تزال وستظل تطاول قامات كثير من أعلام الغرب. كتوماس مان.. هرمن هيسه.. اروهان باموق.. ديستوفسكي.. ماركيز.. ساراماجو.. بورخيس وغيرهم ولا أبالغ أيضا لو قلت أنه يتفوق علي البعض منهم وواتتني فكرة أن أدبج مقالاً بمناسبة هذه الذكري فأعملت ذهني بسرعة.. وقد الهمت أن يكون المقال في "عيون النقاد". هأنذا أبدأ بما جاء في كتاب "دبي الثقافي" 2008 المعنون "مقالات" للراحل الجميل رجاء النقاش الذي يتحدث فيه "عن الحاسدين والحاقدين والمتطرفين الكارهين قد ازعجهم وأغضبهم أن يحصل نجيب محفوظ علي هذا الاعتراف العالمي بعبقريته فأصابهم ما يصيب المعقدين في الأرض من الفزع والأضطراب عندما يرون أن هناك نوعاً من التفوق الاستثنائي قد تحقق لشخص من الأشخاص بينما هم قابعون في الظلام يتحسرون علي ما ناله الأخرون من نجاح وما يعيشون هم فيه من خمول وسوء حال. ماذا كان موقف نجيب محفوظ؟ أنه فنان مخلص أشد الإخلاص لعمله الأدبي والفني.. زاهد كل الزهد فيما عدا ذلك من مكاسب الدنيا. ولذلك فانه التزم دائما بما تمليه عليه طبيعته من البعد عن الصراعات والصدامات والمنافسات.. لأنه يخضع طاقته كلها في عمله الأدبي ويرضي أن يعيش بعد ذلك حياة الموظفين المتوسطين الذين يرضون بما اتيح لهم من حياة عادية و لكنها كريمة ومستورة وخالية تماماً من أي مظهر من مظاهر الترف. وجاء في كتاب "نجيب محفوظ في مرآه الاستشراق السوفييتي" لأحمد الخميسي أن السبب الأول في شعبية وانتشار نجيب محفوظ أنه ممثل نادر المثال للواقعية النقدية.. يكتب بتعاطف حاد عن الفئات الفقيرة والمطحونة في المجتمع المصري واستحوذ علي اهتمام الكاتب في السنوات الأخيرة العالم الباطني النفسي لأبطال رواياته.. وهو أديب لا يحلق فوق السحب.. ولا يؤلف الروايات المنقطعة الصلة بالواقع فابطال رواياته يعيشون في معترك الحياة ويعانون شقاءها وانعكست فيما كتبه نجيب محفوظ عن أشد مشاكل المجتمع المصري حدة.. الكفاح الوطني ضد الاستعمار الأنجليزي. يقول أحمد الخميسي علي لسان المستشرقة فاليرياكيريتشكو "أن القضية الرئيسية في اعمال محفوظ وليدة الحياة.. ليست أينما وكيفما كانت.. لكن تلك الواقعية في زمن محدد ومعلوم في الفترة التي تشكل وتبين فيها الواقع المصري بعد ثورة يوليو". وما يشرحه محفوظ فنياً هو قطعة حية وساخنة من جسد عالمه المحدد الذي يحياه وتشغل الوسائل التعبيرية مكاناً هاماً في روايات نجيب محفوظ المنولوج الداخلي الحوار تناقضات البطل الفكرية الوصف النفسي حالة البطل الانفعالية الا أن ذلك كله لا يدرج الروايات في بند "الرواية النفسية" التي تركز طاقتها في تحاليل الحالات النفسية عند شخصيات معينة.. فأبطال محفوظ انماط اجتماعية تعبر عن وعي فئات وشرائح محددة داخل المجتمع المصري كما أن وعي تلك الفئات يقاس بمواقفها من الثورة موقفها من مصر.. وعن قصة "زعبلاوي" المنشورة ضمن مجموعة دنيا الله.. يقول الناقد جورج طرابيشي في كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ" ان أول ما يلفت الانتباه في هذه القصة هو التشابه الغريب في الواقع والجرس بين "زعبلاوي" وبين "جبلاوي" أولاد حارتنا. ولعل هذا التشابه الغريب كان وحده لأشعارنا بأننا أمام قصة ينبغي أن تفسر علي صعيد أخر غير صعيد الظواهر والوثائق المباشرة.