حين رأيتها ساورني الشك فهي سيدة علي قدر كبير من الجمال تأتي كل مساء مرتدية الملابس السمراء التي تتميز بها بنات البلد.. وبعد وقت قصير أفاجأ بها وهي تخرج من العمارة مرتدية زياً مختلفاً يتسم بالوقار والحشمة!! تحدثت للجيران بأمرها واتفقنا علي مواجهتها لمعرفة قصتها ولم نتوقع أن نسمع منها تلك الراوية الرائعة لحال الزوجة المخلصة حينما يشتد بها الكرب وتضيق السبل!! فذات الرداء الأسمر هي استاذة في مركز للبحوث وقد خرجت للعمل من أجل انقاذ حياة زوجها الاستاذ الجامعي الذي تحمل له كل الجميل والعرفان علي ما وصلت اليه فقد تتلمذت علي يديه ودفعها دفعا لاستكمال دراستها العليا علي قدم وساق.. عطاء نادر من هذا الزوج الذي تحدي أسرته من أجل الزواج بها حيث كان اعجابه الكبير بها وهو يراها تخرج بعد المحاضرات لتقف بجانب أمها في سوق الخضروات تساعدها في السعي علي لقمة العيش ورعاية اشقائها بعد رحيل الأب. انبهر المدرس الجامعي بكفاح هذه الطالبة التي تعلن بكل فخر عن مساعدتها لوالدتها في العمل وهو يري سعيها الجميل بين دراستها الجامعية وعملها بجانب والدتها بالسوق.. وهنا اتخذ قراره بالزواج منها وهو القرار الذي استشاط منه والده غضباً فكيف لابنه المدرس الجامعي الاقتران من ابنة بائعة الخضروات؟!.. لكن كان لامه موقف آخر فقد باركت وعلي غير المتوقع اختيار ولدها حيث رأت فيها كل ما تتمناه أم في زوجة ابنها. وبهذه المباركة بدأ الاستاذ وتلميذته حياتهما الزوجية الجديدة التي لم تشغلهما عن تحقيق طموحاتهما العلمية فقد واصلت الزوجة دراساتها لتأخذ مكانتها بين أساتذة البحث العلمي وزاد الرباط بينهما مع قدوم الابناء حيث رزقهما الله بثلاثة أولاد مازالوا في سن صغيرة. ولأن دوام الحال من المحال فقد توقفت كل مظاهر المحبة والسعادة في حياة هذه الأسرة المتحابة حينما سقط الزوج مصابا بمرض خطير في الدم.. مرض ظل يهدد حياته وهو لا يملك نفقات علاجه الباهظة. هنا انتفضت الزوجة المخلصة وبحثت عن الطريق الذي يعينها علي تدبير نفقات علاج زوجها دون اللجوء إلي بيت أهله رغم علمها أن بداخله أما حانية سبق ان باركت زواجهما.. فاختارت الطريق الأصعب ففي الصباح تتوجه لعملها بمركز البحوث وفي المساء تنزل "متنكرة" إلي السوق لتزاول مهنتها كبائعة ملابس متحملة في ذلك كثير من المضايقات التي كادت تفتك بها ذات يوم لولا أن حفظها الله. وكانت الزوجة الوفية عازمة علي مواصلة عملها بالسوق حتي تأتي بنفقات علاج استاذها وأبو ابنائها لولا أن وضعني الله وباقي الجيران في طريقها فتعاهدنا جميعا علي الوقوف بجانبها واشترطنا عليها عدم النزول إلي السوق مرة أخري حفاظا علي مكانتها ونفسها وأخذنا نطرق كل الأبواب للوفاء تكاليف علاج الزوج لكن عجزنا عن تدبير المبلغ المطلوب نظرا لضخامته.. وفي سرية تامة قمنا بالاتصال بأمه التي ما أن علمت بمرض ابنها والمشكلة حتي ارسلت له بتكاليف العلاج كاملة ليدخل ولدها الحبيب إلي المستشفي ويكتب الله له الشفاء. لقد رأيت في تفاني هذه الزوجة من أجله انقاذ حياة زوجها رسالة لتلك الزوجات اللائي يتخلين عن رفقاء الدرب مع أول محنة يمرون بها.. أقول لهن: تعلمن من ذات الرداء الأسمر لم تأب بالمخاطر التي ستحدق بها حينما تنزل للعمل في السوق فوقوفها في الماضي و اليوم بجانب أمها شيء ووقوفها بمفردها شيء آخر وهي صاحبة المكانة العلمية المرموقة لكن كان هدفها هو رد الجميل لشريك كفاحها الذي تحدي الجميع من أجله وكان عليها أن تفعل المستحيل أيضا من أجل حين ابتلاه الله بالمرض فما جزاء الاحسان إلا الاحسان. ح.ر- دمياط ** المحررة كم استعدتني بتلك الرسالة التي تفيض توقيرا وإجلالا لدور المرأة سواء كانت ابنة أو زوجة.. والنموذج الذي قدمته لنا نموذج ذات الرداء الأسمر ليس فقط فيه رسالة للزوجات اللائي يهربن من السفينة مع أول أزمة تعصف بشركاء الحياة وانما هي رسالة لكل ابنة تتأنف من مهنة أبيها أو أمها المتواضعة بأن تتخذ قدوتها صاحبة تلك التجربة التي لم تتوار خجلاً من عمل أمها في الاسواق بل نزلت لتقف بجانبها لتسعي معها علي رزق اشقائها اليتامي. أما أنت يا صاحب الرسالة فقد لعبت دوراً كريماً في مساندة هذه السيدة في محنتها فاصطحبت معك جيرانك لتبدأوا حملتكم في تدبير نفقات علاج زوجها حتي كلل الله مسعاكم بالنجاح.. وتماثل المريض للشفاء. انها روح التكافل والايثار التي نتمني ألا تغيب أبداً عن مجتمعنا.. يارب.