لم يكن أي شيء هادئاً في الميدان.. كان كل شئ حيوياً وهادراً ومتدفقاً ومؤكداً ان "الثورة قايمة والكفاح دوار". مررت علي ميدان التحرير مساء الخميس.. قلت أتتبع الحكاية من أولها وأقترب من الحالة منذ بدايتها.. كانت الأوضاع علي أهبة الاستعداد.. ثمة شباب يستعدون لإقامة المنصات وتعليق الميكروفونات.. وثمة باعة أعلام وعصائر وكشري وحلوي وملابس يفترشون الأرصفة ببضاعتهم استعداداً لصباح جديد من صباحات الثورة المباركة رافعين شعاراً "جاهينيا" نسبة الي صلاح جاهين الشارع "لنا إحنا لوحدنا"! حضر جاهين في المساء إذن فهل يشهد الصباح حضوره؟ في التاسعة من صباح الأمس جاءت اجابة السؤال "ثوار ثوار ولآخر مدي ثوار. مطرح ما نمشي يفتح النوار. والثورة قايمة والكفاح دوار" انبعثت قصيدة جاهين عبر صوت أم كلثوم وصدق عليها حضور طاغ ومبكر لم يكن أحد يتوقعه وتوالت المشاهد. * الحضور الكثيف أمس أرجعه البعض الي "عودة الإخوان" ورغم انها عودة حميدة ومطلوبة فإنها ليست السبب الوحيد في امتلاء الميدان عن آخره -قدر البعض العدد بحوالي مليون ونصف المليون- لقد اكتشف شباب الثورة أنه ليس ب" الفيس بوك" وحده تصنع الثورات. وان هناك كثيرين لا يعرفون حتي وظيفة "الماوس" في الكمبيوتر. نشط الشباب في توزيع المنشورات المطالبة بالمشاركة في جمعة "التطهير والمحاكمة" انتشرت مجموعات منهم في الشوارع ومحطات المترو طوال الخميس ووزعوا منشوراً باسم "ائتلاف شباب الثورة" يدعو فيه الجماهير للمشاركة. * في محطة السادات التف الناس مساء الخميس حول فتاتين توزعان هذه المنشورات حرصاً علي الاطلاع عليها. وبينما الوضع كذلك حاول شرطي صغير يبدو أنه كان في اجازة طويلة. ان يمنعهما لكن المواطنين ردعوه فارتدع علي الفور! اسموها جمعة "التطهير والمحاكمة" ومن عندي أضيف "جمعة الاطمئنان" علي أن "الثورة قايمة" وان اليأس لن يعرف طريقه الي الثوار. وان كل شئ سيسير الي ما يتمناه الجميع.. علي مداخل الميدان لم يكن هناك أي وجود للأمن.. لا شرطة ولا جيش. ومع تدفق الآلاف من كل مداخل الميدان. سألت شيخاً طاعناً في السن كان يتوكأ علي عصاه: لا يوجد أمن ألا تخشي من قيام البلطجية بافساد اليوم؟ قال: زعماء البلطجية معظمهم في السجن اطمئن لن يحدث شئ بإذن الله. كلام الرجل طمأني وأحضر شاعراً اخر الي جوار جاهين كانت روح حافظ ابراهيم تحلق في أجواء الميدان مرددة "من قديم عناية الله جندي" وأنا استدعيت كذلك أمن العدل انهم يردون الماء صفواً وأن يكدر وردي؟ * تعددت المطالب ما بين عامة وفئوية وان تركزت في نقاط محددة منها: محاكمة عاجلة وحاسمة لمبارك وجمال وسرور وعزمي وصفوت الشريف. وفتح كل ملفات فسادهم بلا استثناء. وتفعيل القصاص السريع والعادل من قتلة الشهداء ومحرضيهم. تفعيل وتسريع خطوات استرداد الأموال المنهوبة. ووضع خطة زمنية لمشروع حد أدني للأجور لتحقيق العدالة الاجتماعية. تطهير البلاد من قيادات النظام السابق الفاسدة والحزب الوطني وأعضاء المجالس النيابية ورؤساء الجامعات. أيضاً مكافحة الانفلات الأمني. وتفعيل دور الشرطة في الشارع علي أساس من احترام حقوق الانسان والرقابة القضائية. وانشاء هيئة قضائية مستقلة تختص بملفات الفساد من تطهير ومحاسبة وتتولي متابعة تنفيذ الأحكام. وتفعيل دور قاضي التحقيق. ومشاركة فعالة لكافة القوي الوطنية في صياغة قوانين ولوائح الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية والنقابية واحالة المتهمين المدنيين الي القضاء العادي ومنع محاكمتهم عسكرياً. ثمة مطالب أخري بعضها يعبر عن خفة دم الشعب المصري ولكنها الخفة العميقة والمحتملة منها مثلاً اجبار حسني مبارك وزوجته وابنيه علي العيش في احدي شقق الاسكان الشعبي وكذلك اعلان عن وجود زنزانة لمبارك "تسليم مفتاح" والبعض الآخر لا مجال فيه للضحك مثل محاكمة أحمد فاضل رئيس هيئة قناة السويس باعتباره زي مبارك. ومحاكمة أحمد شفيق. وحل اتحاد العمال المزور. وتم رفع شعار "مطالبنا من غير ما نقول محاكمة كل الفلول" "الشعب يريد إعدام المخلوع". "علي وعلي وعلي الصوت الثورة قايمة ومش ح تموت". الشعب يريد اسقاط النائب العام. * شئت أم أبيت لابد أن يكون القذافي حاضراً في المشهد. أعلام ليبيا ترتفع مع أعلام مصر. صور القذافي مع صور مبارك في أوضاع كوميدية.. هتافات تناصر الشعب الليبي وتدعو الي الوقوف بجانبه ضد الطاغية.. لكن الأطرف هو فكر العقيد الذي التقطه ابن بلد مصري ووظفه لصالح الثورة.. رفع لافتة مكتوباً عليها "ح نطهر البلاد من الخونة والعملاء والفاسدين.. شبر شبر.. دار دار.. زنجة زنجة.. شرم شرم" مع تحيات الشعب المصري. لم ينس هذا الشعب أيضاً ان يرفع الأعلام السورية والتونسية ولافتات مكتوب عليها نعتذر للشعب التونسي. * يتسع الميدان. كما تعودنا لكل القوي السياسية من اخوان ويساريين وليبراليين وشيوعيين وسلفيين وغيرهم.. ويتسع كذلك للعديد من المنصات لكن ان تتجاوز هذه المنصات ويتجاوز عددها العشر فتلك مشكلة الأمر الذي دفع البعض الي اصدار بيان بعنوان "منصة واحدة.. كلمة واحدة.. يد واحدة" دعو فيه الي الاجتماع علي منصة واحدة لكي يقتلعوا جذور الفساد ويبدأوا في بناء الأمجاد علي حد تعبير البيان. الحضور الأقوي طبعاً كان للمنصة الرئسية ومنها ألقي الدكتور صفوت حجازي خطبة الجمعة التي طالب فيها الثوار بالاتحاد وقال ان أعداء الثورة يقسمون الثوار الي اخواني وسلفي وليبرالي ومسيحي وهو ما يجب أن نفطن إليه جميعاً حتي نستمر في تحقيق أهداف الثورة التي شاركت فيها جميع الطوائف. وأضاف ان النائب العام صديق الرئيس المخلوع وكان يتمني رضا جمال مبارك عليه فهل يخشي من محاكمتهم أم أنه سيحاكمهم كما سيحاكم أي فرد آخر وطالب الشعب المصري بالذهاب الي شرم الشيخ للقبض علي الرئيس المخلوع هو وعائلته لتقديمهم الي المحاكمة. ألقي حجازي الخطبة. وأم محمد جبريل الصلاة. وبعدها تحدث العشرات من فوق هذه المنصة منهم ممدوح حمزة ود. عبد الجليل مصطفي. وعبد الحليم قنديل وزكريا عبد العزيز ومحمد إدريس السعيد وعمار علي حسن وعلاء الأسواني وجورج إسحق الذي خلع جاكت البدلة فحمله عنه شيخ أزهري كان يقف علي المنصة وهتف الثوار ساعتها "المصريين أهم.. المصريين أهم". ومن الخطب الي المحاكمة الشعبية لترتفع درجة السخونة في الميدان.. كان المستشار محمود الخضيري يتوسط لجنة المحاكمة باعتباره رئيسها. وألقي ممثل الادعاء بياناً أكد فيه ان الرئيس المخلوع وزوجته ونجليه علاء وجمال وأعوانهم صفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور وحسين سالم ومفيد شهاب وآخرون قد أفسدوا مصر سياسياً واقتصادياً وأفقروا شعبها وارتكبوا جرائم قتل وتعذيب وتزوير وخانوا الأمانة ودمروا الحياة السياسية والعامة للشعب المصري ودمروا خيرة شبابه.. والله علي ما أقول شهيد. ثم توالت الشهادات من أمهات الشهداء ووكلاء أهالي ضحايا العبارة وغيرهم.. أطرف ما في هذه الشهادات هو ما ورد علي لسان والدة الشهيد خالد سعيد التي طالبت بإعدام مبارك وحبيب العادلي ثم عادت وقالت أسفة مش حبيب العادلي.. "الست عدلية" وهنا هتف الحاضرون عدلية.. عدلية.. وعتفوا أيضاً كلما جاءت سيرة مبارك: ح نجيبو.. ح نجيبو.. ملايين ملايين.. علي شرم الشيخ رايحين. وفي نهاية الجلسة أعلن المستشار محمود الخضيري ان النطق بالحكم سيكون الجمعة القادمة. * المشهد في الميدان كان متسعاً لكل أطياف المجتمع المصري.. شباب جاءوا من المحافظات.. وآخرون من جامعات عين شمس والقاهرة وحلوان والأزهر مطالبين بعزل رؤساء هذه الجامعات.. ومسيرات للأطفال.. ولافتات علي كل شكل ولون.. لا تستطيع أن تؤكد "طغيان" قوي علي أخري.. فقد كان الجميع متلاحمين كرجل واحد علي حب مصر والرغبة في غد أفضل لها. دعوت مجموعة من أصدقائي المسرحيين العرب الذين يشاركون حالياً في المهرجان الذي تنظمه جمعية هواة المسرح.. قلت لهم تعالوا لتروا مصر اللي بجد.. جاءوا وشاهدوا وقالوا لقد تابعنا أحداث الثورة منذ بدايتها وانبهرنا -وهذا شئ طبيعي- بمصر وناسها.. لكن من سمع أو حتي شاهد عبر الفضائيات ليس كمن شاهد علي أرض الواقع والتحم بهذا الشعب وشاف مصر اللي بجد مصر التي تقول: "أنا تاج العلاء في مفرق الشرق. ودراته فرائد عقدي" وتقول أيضاً "أنا ان قدر الإله مماتي. لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي". حقاً إنها مصر التي تستعيد الآن مكانتها ودورها واحترام العالم لها ورغبة شعوبه جميعاً في ان يكونوا مصريين.. أهلاً بمصر الجديدة.