مأساة حمادة صابر الذي تعرض للسحل والاهانة بصورة تقشعر لها الأبدان.. حركت المشاعر نحو ذلك المواطن البسيط حيث تملكه القهر فجاء التخبط في أقواله يثير الأسي والاشفاق ويجعل المرء يتساءل ألهذه الدرجة يفقد الانسان صوابه تحت وطأة القهر والبطش؟ ووسط الأحزان التي ألهبت مشاعري اتجهت إلي آيات القرآن الكريم لعلها تدفع الهدوء إلي القلب وتبدد هذه الآلام كما أخذت أقلب الصفحات في سيرة سيد المرسلين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم أغترف نبعاً صافياً يشيع في النفس الأمل ويؤكد في ذات الوقت ان اللجوء للصبر هو الطريق للنصر والقصاص للضعفاء أياً كانت الشدائد وجبروت الضغوط. في سورة الأنعام كان الاتجاه الأول وبالتحديد في الآية 82 "الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" وكذلك في سورة ابراهيم "ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار" وقوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" إلي غير ذلك من الآيات التي توضح معالم الطريق وتضع أمام البشر الحقائق التي قد يغفل عنها بنو البشر تحت وطأة نوازع الشر والغضب وتذكرهم بأن عين الله لن تغفل عن ظلم الانسان لأخيه الانسان وان انتقام الله في انتظار الظالم مهما طال الزمن. وليت الانسان يدرك ان ذلك الظلم لن يسقط بالتقادم وان الحق تبارك وتعالي سريع النقم. وقد تأملت طويلاً قول الله تعالي "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" وأيقنت ان الأمان قرين الايمان وان من يستقر الايمان بالله في قلبه فإن واحة الأمان تظلل حياته وتجعله يتراجع عن زلزلة الأمن في صدر أي انسان وقع تحت سطوته. يؤكد ذلك ما رواه ابن مردويه عن عبدالله بن سخيرة. قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر. وسكت فقالوا يا رسول الله ما له؟ قال: "أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" وسوف يظل شبح الظلم يطارد هذا الظالم لينغص عليه حياته ويدمر هدوءه فلا يشعر بلذة وجوده مهما يكن النعيم والرفاهية التي يعيش فيها.. وما ربك بظلام للعبيد انما الانسان هو الذي يظلم نفسه بقهر الآخرين. هذا التحذير من الله لعباده يغفل عنه الكثيرون في زحمة الحياة وسطوة الطيش والغضب وقد وجدت في سيرة سيد الخلق محمد بن عبدالله صلي الله عليه وسلم ما يدفع الهدوء للقلب ويجعل المرء يفكر آلاف المرات قبل ان يقدم علي قهر أي انسان مهما يكن ضعفه فقد جاء إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم رجل له دين عند رسول الله. وقد أغلظ في الطلب متطاولاً علي الرسول. فقام عمر بن الخطاب للبطش بالرجل. لكن الرسول رفض هذا التصرف من عمر وقال قولته المأثورة والتي تعد دستوراً لأي انسان تسيطر عليه شهوة القوة والتسلط. قال: كنت أحوج منك يا عمر إلي ان تأمرني بالوفاء وكان الرجل أحوج إلي ان تأمره بالصبر. وفي هذا المجال أيضا جاء يهودي إلي النبي يطلب ثمن بيع اشتراه منه وذلك قبل ان يحل أجل السداد وقد حاول اليهودي ان يستفز رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: إنكم لمطل يا بني عبدالمطلب. وفي تلك اللحظات حاول الصحابة النيل من اليهودي لكن الرسول نهاهم ولم يزده صلي الله عليه وسلم هذا الاستفزاز الا حلماً وبعد هذا الموقف الانساني من رسول الله أعلن اليهودي اسلامه. تؤكد كل الدلائل ان الأمان دائماً يتحقق في جوار أهل الايمان لأنهم يدركون مدي أهمية هذا العنصر الاساسي في حياة البشر فيبذلون أقصي الجهد لترسيخه في نفوس أولئك النفر من خلال سلوكيات وأعمال علي أرض الواقع بحيث يلمسها المواطن البسيط بحسه المرهف رغم قسوة المعاناة التي تحاصره من كل جانب. كما انهم يقدرون ما ترسب في نفوس البسطاء علي مدي عقود متعاقبة من قهر وهموم وأثقال أصابتهم بالانطواء والانزواء بعيداً عن الناس. يستعذبون هذه الآلام منعاً للاحراج أو أقاويل الآخرين وما أكثرها يمنعهم هذا التعفف من اللجوء إلي البشر أو التعبير عما يجيش ويعتمل في صدورهم وقد عبر القرآن الكريم عن هؤلاء في الآية الكريمة بسورة البقرة "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافاً وما تنفقوامن خير فإن الله به عليم". لذلك لم أتعجب كثيراً أثناء متابعة أقوال حمادة صابر عن الأهوال التي تعرض لها أمام أعين العالم بلا أي حواجز أو رتوش نتيجة قهر سنوات طوال جعلته ينطوي علي آلامه لأن الآخرين تركوه وانشغلوا بشئونهم.. هذا الرجل واحد من كثيرين من أبناء شعبنا يمنعهم الحياء من الافصاح عما في نفوسهم من مشاعر وآلام تنوء الجبال بحملها وقليل من هؤلاء حينما نراهم يفضفضون عما في الصدر من آلام لكن أهل الايمان يقدرون مشاعر هؤلاء فيرحبون بجوارهم في مجالسهم ويشاركونهم مشاعرهم دون احراج أو من أو أذي.. السرية والكتمان هي الاساس في التعامل معهم ولايبدو منهم أي تصرف قد يثير غضبهم ويتحرون الدقة لإدخال السرور في نفوسهم هؤلاء هم أولياء الله وخاصته "ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون" 62. 63 يونس. التقوي التي استقرت في قلوبهم جعلتهم يضعون مشاعر هؤلاء البسطاء نصب أعينهم لا تشغلهم أعباء الحياة ومشاكلها. أما الظالمون والمجاهرون بالاعمال السيئة فتري البسطاء يهربون بعيداً حتي لا تصيبهم شظايا نيران هؤلاء "ولا تركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" وهولاء الظالمون تراهم منبوذين من كل البشر. يهرب من حولهم . وتظل اللعنات تلاحق الظالمين الغارقين في هذا الضلال والطغيان. طمس الله علي أبصارهم وبصيرتهم وتراهم لا يفيقون الا بعد فوات الأوان وفي الحياة كثير من هؤلاء الذين سلط الله عليهم من ينتقمون منهم وينتزعون حقوق المقهورين من الطغاة الظالمين ولعلنا لا ننسي تصرفات عمر بن عبدالعزيز أحد خلفاء بني أمية حينما تولي زمام الحكم ومكنه الله من إدارة الأمة بالحكمة والعدل استرد من أبناء عمه وأقاربه كل ما أخذوه من الناس ظلما وقهراً واعاده الي أصحابه من المقهورين ولم يلتفت إلي صلات القربي ومحاولات بعضهم لإثنائه عن هذه التصرفات. ونتيجة لهذا الانصاف والعدل أطلق عليه المؤرخون لقب خامس الخلفاء الراشدين. ورغم اختلاف الآراء حول واقعة حمادة صابر وتجاذب الأحاديث بين أطراف متنازعة كل ينظر اليها من جانب بينما يتجاهل جوانب أخري في محاولته لطمس الحقيقة المرة حول انسان ضعيف عاش حياته بائساً وذلك لغرض في نفس يعقوب كما يقولون لكن عين الله لن تغفل عن أي انسان لم يقف في وجه الظلم ويسعي ولو بالرأي لإنصاف هذا البائس المتردد في أقواله حول ما تعرض له من أهوال لم تخطئها عين كل من شاهد مأساته وذلك الظلم الذي حاق به من تعرية لملابسه وركل بالأرجل في ليلة شاتية شديدة البرودة. وقد أعادت أحداث هذا البائس إلي الذهن أحداث واقعة شاءت الأقدار ان أتابع ملابساتها بكل التفاصيل وتتلخص الواقعة الأولي في أن رجلا فقيراً كان يتولي الاشراف علي "جمل وحمار" لأحد الجيران مقابل أجر يومي حيث يتم نقل الأتربة والأسمدة الطبيعية إلي مزرعة قريبة وأثناء سير الدابتين تصادف مرور مهندس يركب دراجة بخارية ونتيجة لصوت الدراجة فقد تحرك الحمار معترضاً الطريق مما أدي إلي سقوط المهندس علي الأرض وقد تملكه الغضب فانهار ضرباً في ذلك الأجير الضعيف ولم يستطع تبادل الضرب مع صاحب الدراجة وكل ما فعله أخذ يتمتم ببعض الكلمات التي تعبر عن مأساته وانصرف يتابع رحلته بينما ترك المهندس يحاول اصلاح تلك الدراجة وبعد أكثر من ثلاث ساعات لم يفلح في اصلاحها بينما كان الأجير يمضي بجواره ثلاث مرات متعاقبة لنقل الأتربة والأسمدة وفي المرة الرابعة تقدم صاحب الدراجة نحو هذا الاجير طالبا عفوه عن تصرفاته الطائشة ورغم الضعف والقهر الذي تعرض له كانت السماحة والعفو عن هذا الظالم ومن المفارقات الغريبة ان هذا المعتدي حينما عاد مرة أخري لاصلاح الدراجة تمكن من إدارتها عازماً علي عدم العودة لمثلها ومن خلال متابعتي سألت ذلك الأجير قائلاً لماذا لم تتمسك بحقك ضد هذا الظالم؟ وقد جاء رده أكثر حكمة حيث قال: ربنا خير منتقم للضعفاء المقهورين أمثالي. ولذلك لم أستغرب كثيراً تلك الأقوال البائسة من حمادة صابر المسحول. وهناك الكثير من هذه النماذج لكن انتقام الله في انتظار هؤلاء الظالمين للقصاص منهم واستعادة الحقوق وما ربك بغافل عما يعملون ولله الأمر من قبل ومن بعد.