تمخضت معركة سد النهضة عن مكاسب عديدة لإثيوبيا على حساب مصر التى سوف تتكبد خسائر جمة على الصعيدين الاقتصادى والسياسى .ساعد السد على تبديل وضع الدولتين فى الإطار الإقليمى لصالح إثيوبيا نتيجة لعلو كعب إثيوبيا وإحكام سيطرتها على مياه النيل بعد السد ، ومن ثم إحكام قبضتها على منافستها التاريخية مصر.الآن الوضع المثالى لإثيوبيا أن ترضخ لها مصر بأن تشترى كهرباء سد النهضة أو تقوم بشراء مياه النيل من بنك المياه الذى تقيمه إثيوبيا بالمخزون المائى فى بحيرة السد أو أن تقوم مصر بالاستثمار الزراعى فى إثيوبيا لتنتج هناك القمح والأرز وقصب السكر والبذور الزيتية فى ظل اتفاقيات معينة تمكن مصر من شراء هذه المنتجات بشروط تفضيلية .بعد أن أصبح السد أمرا واقعا باعتراف المسؤولين المصريين ليس أمام مصر إلا هذه الاختيارات التى فرضتها عليها إثيوبيا بتفوقها التفاوضى وبتردد السلطة المصرية ووقوعها فى الخطيئة الكبرى ألا وهى اعتراف السيسى بالسد فى وثيقة الخرطوم الثلاثية.تستورد مصر حاليا حوالى نصف غذائها ، أو بعبارة أخرى نحو نصف السكان المصريين يحصلون على غذائهم من الخارج ، ودخول سد النهضة على الخط فضلا عن التغيرات المناخية ودورات الجفاف ، سوف يقلص قدرة القطاع الزراعى على تلبية الاحتياجات الغذائية ، وخلال العقدين القادمين سوف تضطر مصر إلى استيراد الجزء الأعظم من احتياجاتها الغذائية .الصورة فى نهاية القرن واضحة كالشمس حين يصل عدد سكان مصر إلى نحو 300 مليون نسمة مع تبات كمية الموارد المائية المتاحة أو تناقصها. يرتكب المسؤولون خطأ فادحا بالشروع فى تنفيذ مشروعات زراعية عملاقة لا تاخذ فى الاعتبار هذه التطورات المتوقعة بالنسبة للمياه .لو افترضنا أن الأثر المشترك للسدود الإثيوبية والتغيرات المناخية يتمثل فى خصم 20 مليار متر مكعب سنويا من حصة مصر المائية ،فذلك يعنى مباشرة استبعاد 4 مليون فدان من الرقعة الزراعية البالغة 8.5 مليون فدان ،مما يعنى انخفاض الإنتاج الغذائى المصرى إلى النصف ومن ثم اتساع الفجوة الغذائية الكلية من نحو 40% حاليا إلى 80% ، إن الموازنات المائية خلال السنوات 2030 و 2050 ومابعدها وحتى نهاية القرن تكشف بصورة قاطعة الاتجاه إلى أوضاع غاية فى الحرج فيما يتعلق بالأمن الغذائى.قد تستطيع السياسات الزراعية والمائية الناجحة تخفيف العجز عن طريق الاستخدام الكفء للموارد الأرضية والمائية المتاحة مع التركيز على التكنولوجيات المتقدمة ، إلا أنه فى نهاية الأمر وعند نقطة زمنية معينة سوف تنفد الموارد المائية المتاحة للإنتاج الزراعى وحينها ستضطر مصر بالاعتماد بالكامل على الخارج فى إمداداتها الغذائية . وعند هذه النقطة أيضا سوف يختفى القطاع الزراعى الذى يساهم فى الناتج المحلى الإجمالى الكلى حاليا بنحو 13% ويرتبط به نحو 27% من القوة العاملة الكلية ونحو 40% من السكان المصريين.ومن ثم على واضعى السياسات إذن وضع خطة للخروج الآمن للقطاع الزراعى من الاقتصاد المصرى .ويقابل الخروج الآمن الخروج العشوائى أو غير المخطط .وفى هذا الصدد يعتبر البدء فى مشروع كمشروع المليون ونصف مليون فدان فى الوقت الذى تتجه فيه الموارد المائية إلى النضوب ضربا من العشوائية ويتجاهل الندرة المائية المستقبلية. فلا ينبغى خلق مجتمعات زراعية جديدة ، على العكس ينبغى أن تقوم خطة الخروج الآمن على استيعاب قطاعى الصناعة والخدمات للقوة العاملة الزراعية بشكل تدريجى .ويمكن أن يدخل فى هذا الإطار التوسع فى الزراعات المحمية المرتبطة بصناعات غذائية كثيفة العمالة .كما يدخل فى إطار هذه الخطة برامج لإعادة تأهيل القوة العاملة الزراعية للاشتغال بمهن غير زراعية.
* أستاذ الاقتصاد الزراعى – كلية الزراعة – جامعة القاهرة