بالنظر إلى واقع اللغة العربية فى مصر بعد الثورة نجد أن ثورة 25 يناير 2011 مثلما كشفت الغطاء عن المستويات الهائلة من الفساد الذى كانت تغرق فيه مصر فى العهد السابق فقد كشفت هذه الثورة الغطاء أيضًا عن الفساد الهائل فى اللسان العربى على ألسنة المصريين، وعن فقدان الإنسان المصرى قدرته البيانية باللغة العربية الفصحى. لقد كان مشهد الثورة كله مشهدًا سياسيا اجتماعيًا بالدرجة الأولى، مما كان يقتضى خطابًا تكون فيه اللغة العربية الفصيحة حاضرة فيه بشكل ما. لكن المشهد اللغوى لهذه الثورة، فى امتدادها المكانى عبر رقعة الوطن كله والزمانى منذ 25 يناير حتى الآن، وفى كل فعالياتها من خطب ولافتات وأشعار وحوارات على الفضائيات وعلى شبكة الإنترنت؛ قد شهد غيابًا شبه كامل للغة العربية الفصيحة. وقد تجلى ذلك فى عدة مظاهر: - يذكر –أول ما يذكر- الخطأ اللغوى الشهير فى خطاب التنحى الذى ألقاه اللواء عمر سليمان حين ختمه بقوله " والله الموفَّق" بفتح القاف وليس كسرها، أى اسم مفعول وليس اسم فاعل!!. - الخطاب السياسى لكل المسئولين بعد الثورة، مثل الفريق أحمد شفيق والدكتور عصام شرف رئيسى الوزراء السابقَيْن كان بالعامية. وحتى الخطاب الموجز والمحدد والمنظم والمتفائل للمشير حسين طنطاوى، الذى وجهه لقادة وضباط الشرطة يوم الاثنين 16/5/2011، كان باللغة العامية، والمفترض أنه خطاب رسمى من المسئول الأول فى الدولة الآن، فكان لابد أن يكون باللغة العربية الفصحى، لغة الدولة الرسمية بنص الدستور. - فى قلب ميدان التحرير كانت اللافتات فى معظمها مكتوبة باللغة العامية. من التعبيرات القليلة التى كتبت بالفصحى كلمة " ارحل" وإن كانت قد كتبت بهمزة القطع" إرحل" لا الوصل. ومنها أيضًا لافتة حملها أحد المتظاهرين يوم جمعة التنحى مكتوب عليها: "عفوًا سيادة الرئيس، لقد نفد رصيدكم". وإذا كان الطبيعى أن تكون الهتافات فى ثورة شعبية كالثورة المصرية بالعامية فإنه من غير الطبيعى أن تكون اللافتات مكتوبة بالعامية، خاصة أن معظم المتظاهرين من الشباب الذين قضوا من أعمارهم 12 سنة على الأقل فى التعليم، أى أنهم - من المفترض- يجيدون كتابة اللغة العربية الفصيحة. - أما الأشعار فقد كانت فى معظمها بالعامية، مع بعض الاستثناء مثل الشاعر عبد الرحمن يوسف، ومثل فتاة ألقت قصيدة " لاتصالح" لأمل دنقل من على السور بجوار مسجد عمر مكرم يوم الثلاثاء 8 فبراير. صحيح أن للشعر العامى جماله وتأثيره، خاصة فى مثل هذه الأجواء الثورية الشعبية العامة لكن اللافت للنظر انحسار وضعف ملكة الشعر الفصيح فى مثل هذه المناسبة التى تستجيب لها قرائح شعراء الفصحى فى العادة بقوة أيضًا. - أما بيانات الثورة فقد كان بعضها يتلى بلغة فصحى تفتقد غالبًا للسلامة اللغوية. - الحملات الشبابية التى أطلقت بعد الثورة لنظافة الشوارع وإعادة بناء مصر كانت كلها بالعامية، مثل: "يلا نبنى مصر"،" علشان بلدنا" وحتى إعلانات "جمعية رسالة" فى الشوارع كتبت باللغة العامية. وقد قرأت دعوة مكتوبة كلها بالعامية من مجموعة " فى حب مصر" جاء فيها تحت عنوان: بلدنا نظيفة جميلة متطورة: إحنا يا جماعة عاملين الحملة دى لإعادة إعمار مصر، وإن شاء الله هدفنا إننا نخلى مصر بالبلدى كده حتة من أوروبا... محدش فينا هيسرق محدش فينا هيكسر إشارة....." إلخ.وقد قام الأستاذ فهمى هويدى بإعادة صياغة هذه الدعوة بالفصحى فى إحدى مقالاته، فى سياق ثنائه على الروح الجديدة التى سرت فى شبابنا بعد الثورة. لقد كان هذا العجز الغالب على ألسنة المصريين وأقلامهم عن الأداء العربى الفصيح أحد الثمار المرة لفساد الأنظمة السياسية الحاكمة فى مصر طيلة العقود الماضية. تلك الأنظمة التى حَقَّرت من شأن اللغة العربية فى كل مجالات الحياة المصرية؛ فى التعليم والفن والإعلام والحياة العامة، فى الوقت الذى عظَّمت فيه من شأن اللغات الأجنبية والثقافة الأجنبية على حساب لغة الدولة الرسمية ومن ورائها ثقافتها وهويتها. كلية دار العلوم [email protected]