عندما يفتح خطاب رئيس الجمهورية بابا للأسئلة أكثر مما يعطي من أجوبة ، فاعلم أن السلطة في أزمة ، وعندما يزيد الاستماع إلى خطاب الرئيس من مساحة القلق والخوف لدى الشعب أكثر مما يمنحهم من الطمأنينة والثقة فاعلم أن البلاد كلها في أزمة ، وهذا ما حدث بعد خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس ، والذي أعقبه طوفان من التوتر والقلق والحيرة والتساؤل وقد امتزج كثير من ذلك بحالة من السخرية المرة التي تعبر عن الإحباط وغياب الأمل أكثر مما تعبر عن الشماتة أو الرضى بحال السلطة المأزومة . وبعيدا عن الدخول في تفاصيل ما استعرضه الرئيس في خطابه ، خاصة في الأزمات الاقتصادية والمائية ، ويقينا كانت هناك معلومات غير دقيقة فيما قدم ، مثل ما حدث في عرضه للإنجاز الافتراضي في سرعة إنهاء تفريعة قناة السويس الجديدة ، أو القناة الجديدة حسب الوصف الشائع ، لأن هناك ما يشبه الإجماع بين خبراء الاقتصاد على أن ما حدث في هذا المشروع كان سببا من الأسباب الأساسية في أزمة الدولار والاقتصاد كله ، بدون عائد حقيقي حتى الآن ، بعيدا عن التفاصيل ، فإن ظلال الأزمة وتوتر الرئيس بشكل واضح ، بعد عامين فقط من توليه السلطة ، ورغم أنه لا يعاني فعليا مثل أسلافه من حصار إقليمي أو تمرد داخلي كبير ، أقول : هذا الاضطراب والقلق والحيرة والإحباط يكشف جانبا من سوء التقدير لدى قطاع من النخبة المصرية التي بشرت بعد 3 يوليو 2013 بأن مصر كانت في حاجة لقيادة من خلفية عسكرية حاسمة ، تحسن الضبط والربط ، وأن الحل في مصر لا يكون إلا من خلال "الرئيس الدكر" ، وقد فشلنا وقتها في أن نقنع أحدا بأن إدارة الدولة في منعطفاتها التاريخية الصعبة تحتاج إلى خبرات مدنية عالية وعقل سياسي ناضج وسلام اجتماعي ووحدة الإرادة الوطنية ، فالمجتمع ليس كتيبة عسكرية ، والدولة ليست فرقة جيش ، وكنا نقول ذلك بوازع وطني مجرد ، بدون أي رغبة في التقليل من شأن أحد أو الانحياز إلى أحد ، فكل جزء من أجزاء الوطن نحتاجه ولا يمكن التفريط فيه ، وإنما التحدي هو أن يوظف في الموقع الصحيح ، وها نحن ، بعد عامين من تحمل القائد العسكري الذي لا ينقصه الحسم ولا الضبط والربط للمسئولية ، نعاني كل هذا العناء ، ووصلنا إلى حد مناشدة الناس والدول الأخرى أن تتبرع لنا أو تساعدنا حتى "لا تسقط الدولة" كما قال الرئيس نفسه ، وإن كان من قيمة إيجابية لهذا الوضع البائس فلعله إقناع هذا القطاع من النخبة بخطأ التصور القديم ، العالم الآن تغير كثيرا عن نسقه في الخمسينات والستينات في القرن العشرين الماضي ، في العالم اليوم سيدات يقدن دولا كبيرة وعظيمة ويشرفون على جيوش ويحققون لوطنهم نهضات اقتصادية وعسكرية جبارة جعلتهم في صدارة العالم ، في العالم اليوم شباب في عمر أولادنا أنشأوا وأداروا بكفاءة عالية مشروعات اقتصادية تقيم اليوم بعشرات المليارات من الدولارات ، وتحقق دخلا سنويا أضعاف ما تحققه دول بكاملها ، مش حكاية "دكر" ، حكاية "عقل" . لم أكن قلقا على بلدي في يوم من الأيام مثلما كنت أمس ، دعك من أي خلاف سياسي ، دعك من مسألة أنك مع السيسي أو ضده ، مقتنع به أم غير مقتنع ، لن يفيد ذلك كثيرا الآن في الخطر الذي نواجهه جميعا ، البلد فعلا في خطر ، وهي على حافة ، وخطاب العواطف الذي دشنه السيسي قبل أكثر من عامين وكسب به تعاطف الناس وأملهم في مستقبل أفضل أصبح تكراره يثير السخرية الآن أكثر من التعاطف ، لأن الأمل تلاشى من فرط بؤس الواقع والثقة تتبخر بسبب التراجع ، السياسة الاقتصادية تقريبا أعلنت إفلاسها ، وتنتظر المجهول ، والمزيد من المصانع تغلق ، والمزيد من الشركات تفلس ، والمزيد من المواطنين ينضمون إلى سوق العاطلين عن العمل بعد تسريحهم ، والبنك المركزي نفسه لم يعد يملك إجابات على أسئلة المستثمرين والتجار ، والسياسات الأمنية وضعت الشعب من جديد في مواجهة الجهاز الأمني كما وضعت الدولة بكاملها في صدام حتى مع أصدقائها في العالم ، ومصيبة الباحث الإيطالي تحولت لكابوس ، وخطط تفكيك الخطر الإرهابي في سيناء تتعثر منذ سنتين وما زال الإرهاب يضرب ويستنزف الوطن بشكل يومي ، والخوف والقلق وغياب الثقة جعل مشروعات بناء سجون جديدة في صدارة اهتمامات الدولة الآن ، والفراغ السياسي في الداخل علامة فارقة ، حتى البرلمان أصبح خيالا لا وجود له حقيقيا إلا في خناقات الأعضاء مع بعضهم وجعل الناس تترحم على برلمان أحمد عز ، والسياسة الخارجية أسطورية في خسارة الأصدقاء واهتزاز الثقة الإقليمية والدولية في الدولة المصرية ، سوريا ، اليمن ، ليبيا ، السودان ، وإحباط دول الخليج ، أهم داعمي السلطة ، من عمل القاهرة وفق محاور معادية لهم ، وعجز واضح عن اتخاذ مواقف حاسمة في أخطر ملفات أمننا القومي مثل موضوع سد النهضة الأثيوبي رغم الإهانات التي نالت من كرامتنا عبر تصريحات مسئولين في أديس أبابا ، وأضف إلى ذلك كله ما بدا من أنه تباين حاد في وجهات النظر داخل جسم السلطة نفسها ومؤسساتها . مصر اليوم بحاجة إلى خطة إنقاذ عاجلة وشاملة ، مصر اليوم بحاجة إلى مكاشفة حقيقية ، بين السلطة والشعب ، بمنتهى الشفافية ، المزيد من الوقت على هذا الحال يعني المزيد من التعقيد والمزيد من الخسائر والمزيد من الخطر ، مصر بحاجة إلى خارطة طريق جديدة ، بحاجة إلى شجاعة قرار سياسي مسئول ، فهل هذا ممكن ؟! .