لستُ من خريجى الحقوق، لكن اهتمامى الشديد بالتأريخ للتعليم فى مصر، يدفعنى دائمًا إلى تلمُس كل ما يفيد فى هذا الباب.. وبالأمس، كنتُ أقلِّبُ فى كتاب أصدره الصحفى الراحل "صبرى أبوالمجد" عن عملاق الصحافة الشهير السابق، "فكرى أباظة"، لفتت نظرى إشارات مهمة، عن بواكير هذا المعهد الذى كان الطلاب يدرسون فيه "الحقوق"، حيث كان يُسمى "مدرسة الحقوق"، جريًا على عادة ذلك الزمان، فى أوائل القرن العشرين، من حيث تسمية مؤسسات التعليم العالى بالمدارس، وهو الأمر الذى يدهش له طلاب زمننا الحاضر، لكن الذى يجب أن يدهشهم أكثر، هو أن جامعات غربية عريقة ما زالت تحافظ على تسمية بعض مؤسسات التعليم الجامعى فيها باسم "مدرسة"، والذى يعنى "طريقة ومنهجًا فى دراسة تخصص ما" ، ومن هنا نرى مدرسة للدراسات الشرقية بجامعة لندن، ومدرسة القانون، فى جامعة هارفارد ..وهكذا. وكانت مدرسة الحقوق فى مصر قد انتقلت من مبناها القديم أمام "قرة قول" عابدين- وينطق بقولهم "كراكون" – التى كانت الإدارة العامة للصحة المدرسية فيما بعد، إلى المبنى الملاصق لسراى عابدين، من شارع حسن الأكبر..ثم أصبحت إدارة المحفوظات التاريخية الملكية فيما بعد. ومنذ نشأتها الأولى، كانت مدرسة الحقوق تدور فى فلك الثقافة الفرنسية، فلما تمكن الاحتلال البريطانى وثبّت موقعه فى مصر، بدأ التحويل التدريجى للمدرسة نحو الثقافة الإنجليزية. وفى عام1914، عندما اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، وخلعت بريطانيا الخديوى عباس حلمى من على العرش، وأحلت محله السلطان حسين كامل، بعد فرض حمايتها على البلاد، اعتزم الحاكم الجديد، الذى كان مرفوضًا شعبيًا بحكم توليه السلطة على يد المحتل الإنجليزى، زيارة مدرسة الحقوق، فى يوم 18 فبراير عام 1915، فماذا كان موقف الطلاب؟ قرروا رفض الزيارة، وكان تعبيرهم عن ذلك، بالانسحاب من الدراسة فى نفس اليوم بحيلة نفذوها، حيث طبعوا دعوة كتابية فى اليوم السابق أرسلت لجميع الطلاب لتشييع جنازة طالب وهمى بالسنة الثالثة بالمدرسة فى الساعة الحادية عشرة فى ذلك اليوم- وهو يوم زيارة السلطان- من المنزل رقم13 شارع المغربى، وهو عنوان محل جروبى، فصدق كثيرون هذه الدعوة، وانصرفوا إلى أداء هذا الواجب الإنسانى، ولم يبق بالمدرسة إلى قلة من الطلاب.. وفى اليوم التالى اجتمع مجلس إدارة المدرسة برئاسة ناظرها (عميدها)، وكان هو يحيى إبراهيم باشا، رئيس محكمة الاستئناف، والذى أصبح فيما بعد رئيسًا للوزراء، وذلك للتحقيق فى هذا الأمر، وقررت لجنة التحقيق: فصل أربعة وخمسين طالبًا، وحرمان ثلاثة عشر من امتحان آخر سنة 1915( كان من هؤلاء، المرشد الثانى لجماعة الإخوان المسن: حسن الهضيبى)، وحرمان ثمانية عشر طالبًا من امتحان آخر السنة مع إيقاف التنفيذ. ثم صدر عفو سلطانى عن الطلاب المفصولين والمحرومين من الامتحان، باستثناء سبعة عشر طالبًا، وكان من بينهم من أصبح سياسيًا بارزًا فيما بعد، مثل "محمد صبرى أبو علم، وأحمد مرسى بدر، وسليمان حافظ...وغيرهم. وكان نصيب فكرى أباظة، الفصل نهائيًا من المدرسة، لكن صداقة والده للسلطان ساعدت فى تخفيف العقوبة إلى النفى الداخلى، فى قريته الأصلية "كفر أبو شحاتة"، حتى يبعد عن الأجواء الثورية فى القاهرة. فلما وقع اعتداء على السلطان حسين كامل فى 8 إبريل من عام 1915، وقُبض على القاتل وصدر حكم بإعدامه، خرجت قائمة طلاب الحقوق "الثوار" ، ليلقى القبض على كثير منهم ويُودعوا سجن طرة ثلاثة أشهر. ويذكر فكرى أباظة، الذى كان يدرس الحقوق فى هذه الفترة، من أساتذته فى ذلك الوقت بالمدرسة "حسن نشأت" ، الذى كان يُظهر للطلاب كراهيته للسياسة، ومن ثم لم يظفروا منه برأى فيها على الرغم من شغف طلاب حقوق هذا الزمان بكل ما يتصل بالسياسة، إلى درجة أنها أصبحت، ولمدة عقود، وكأنها مصنع تخريج الساسة والحكام فى مصر، وتشاء الظروف أن تضع حسن نشأت فيما بعد فى قمة السياسة المصرية.. ومن أساتذة المدرسة أيضًا "بهى الدين بركات" الذى كان يُدرِّس مادة المرافعات، والذى قال عنه فكرى أباظة إنهم كانوا يتبارون للظفر ولو بخطأ لغوى واحد للرجل ففشلوا فى ذلك!! ومما هو جدير بالذكر، أن المدرسة كانت حتى عام 1912 تابعة لوزارة المعارف( التربية)، ثم انتقلت إلى وزارة الحقانية "العدل"، ثم أُعيدت إلى "المعارف" عام 1922، تمهيدًا لضمها للجامعة عام 1925، وكان "على ماهر" السياسى المخضرم الشهير، هو أول عميد مصرى لها عام 1923..كانت أيام!! إضاعة اللغة إضاعة للذات: أعترف مقدمًا بأمرين؛ أولهما أن العنوان ليس من عندى، وإنما من ابتكار المُبدع الذى لم يأخذ حقه بالدرجة التى يستحقها: عبدالله النديم، منذ ما يزيد على مائة وعشرين عامًا. أما الأمر الثانى، فهو أن ليست هذه هى المرة الأولى التى أكتب فيها عن هذا الموضوع، لكن، لأن القضية ما زالت كما هى، بل إنها تزداد سوءًا وتدهورًا، فلن نمل عن الحديث فيها وعنها، ألا وهى القضية الخاصة بالعربية لغة، وأخص بالذكر هنا: رسائل الماجستير والدكتوراه، المفروض أنها أعلى مستويات البحث العلمى. فقد تصادف أن ناقشت هذا الأسبوع رسالتين إحداهما للماجستير، والأخرى للدكتوراه، لأجد نفسى وقد تحولت إلى "مصحح لغوى" مع أننى لا أدعى العلم الوافر بها، لكن حالى أصبح مثل الأعور فى بلد العميان، مع الاعتذار لكلا الفريقين. ويترتب على هذا أننى فى كثير من الأحوال، لا أكاد أفرغ إلى متابعة الموضوع العلمى الذى تتصدى الرسالة لبحثه، لأن جهدى منصرف كله، فى كل صفحة، بلا مبالغة، وأحيانًا فى كل فقرة، إلى وضع نقطة هنا أو همزة هناك، أو إشارات الفصل والتواصل بين الجمل، وتقسيم الكلام إلى فقرات، وتعديل بدء بعض الفقرات، وإعادة تركيب بعض الجمل لسوء تعبيرها..إلى غير هذا وذاك من مبادئ الكتابة. ناهيك عن أخطاء النحو والصرف، التى وضعنا أصابعنا "فى الشق" معها، كما يقولون. المفروض أن الرسالة تحول قبل مناقشتها إلى مصحح لغوى، كما هو الأمر فى الكثرة الغالبة من جامعات العالم المحترمة، لكن ماذا نقول، ومن يسمون "خبراء اللغة العربية" أنفسهم اليوم عندنا أصبحت حالهم يرثى لها، من حيث المستوى اللغوى العربى؟!! وقد اضطررت إلى أن أعيد إحدى الرسالتين إلى باحثها، كى يصحح أخطاءها التى تصل إلى المئات..أقول هذا وأنا غير خبير فى اللغة العربية، فماذا لو دقق فيها خبير آخر"بحق وحقيق" ؟!! فى إحدى المناقشتين، بعد أن مضى أكثر من نصف الوقت، وأنا أعرض لملاحظاتى فى لغة الرسالة، شعرت بالملل والقرف، فضلا عن التعب، فختمت مناقشتى، مع أن هناك بقية تحتاج إلى المناقشة، وعندما عقَّب المُشرف، قال إنه كان يود أن أنتقل إلى مناقشة ما تضمنه الجزء الأخير من فكر- ربما مجاملا- ليستمتع بتحليلاتى.. لم أستطع أن أقول له الحقيقة أمام الجمهور، وإن عبرت عنها بأسلوب آخر غير مباشر، ذلك أننى فى حقيقة الأمر، قد تربيتُ على وجهة نظر أستاذنا الراحل الدكتور زكى نجيب محمود، عندما نقد القول الشائع بأن اللغة هى وعاء الفكر، حيث أكد أنها هى الفكر نفسه، ومن هنا فقد أصبح شعارى: "من اعوجت لغته..اضطرب فكره" ... فالكاتب هنا أشبه بمن يسعى أن يعبىء"قفة" من تلك "القفف" المستخدمة فى نقل الزبالة، فهل هناك فرصة أن تفحص هذا الزيت لترى نوعه وقيمته؟! إن التدهور الذى تعيشه اللغة العربية فى ثقافتنا، هو علامة تخلُّف مُفزع، لأنه تفريط فى "الذات الثقافية".. وها هى – كما أردد كثيرًا – دولة العدو الصهيونى، تحيى لغة ميتة، منذ ألفى عام، العبرية، فتعلم طلابها مختلف العلوم الحديثة بها، ونحن نميت لغة "حية " منذ آلاف السنين..ودولة العدو لا تجد فيها "أنطاعا" يتحججون بأن لغة العلم العالمية هى الإنجليزية، فمتابعة منجزات العلم العالمية بلغتها الإنجليزية لا تحول أبدًا دون الاعتزاز باللغة القومية. وفى اعتقادى، أن إحدى المجالات التى يجب أن تحتل تفكيرنا، والدعاوى المترددة هذه الأيام بضرورة "استكمال" الثورة، هى العودة إلى إحياء هذا الركن الأساسى من أركان الذات الثقافية!!