عندما كان النظام الصهيونى فى تل أبيب يقصف أهلنا الأحبة فى غزة فى مثل هذه الأيام منذ ثلاثة أعوام كان المصريون تتقدمهم الطليعة الإسلامية يتظاهرون كل جمعة، وطوال الأسبوع كانوا فى المدارس والجامعات ينتفضون احتجاجاً على هذه المجازر الوحشية التى ارتقى بها نحو ألف وأربعمائة شهيد.. نذكر فى مصر هذه الأيام جيداً، كنا نعانى من نظام هو أحد أسوأ الأنظمة القمعية التسلطية التى عرفتها مصر والمنطقة العربية، مع ذلك لم يحل ذلك دون أن يظهر المصريون عموماً، و"الإسلاميون" خصوصاً لأهلنا المرابطين فى الأرض المباركة.. وفى تلك الأثناء، وبرغم حظر التظاهرات وخشية النظام من أن تتحول أى مناسبة لفرصة للثورة ضده إلا أنه لم يتمكن من وأد الشعور الإسلامى الجارف إزاء ما يحصل، ولم يرد أن يصادم كل هذه الجموع التى بدت متحمسة للتظاهر لاسيما أنه كان يغلق معبر رفح فى وجه الجرحى واللاجئين، ومن ثَم فإنه لم ير داعياً لإغلاق الباب فى وجه المحتجين، لكنه عمل على "ترشيد" و"ضبط" تظاهراتهم. كنا فى مصر فى هذا الوقت، وتحديداً منذ يوم 27 ديسمبر 2008 بداية العدوان وحتى نهايته فى يناير التالى ننتفض كغيرنا من سائر الشعوب المسلمة حرقة، ونتفطر ألماً من لوعة ما يحدث لإخواننا الأبطال.. كنا ندرك أن الدم الفلسطينى ليس ماء، ولا "بيبسى كولا" مثلما تهكم الشاعر اللاذع أحمد مطر من قبل فى إحدى قصائده؛ فبادرنا إلى أقل ما يمكن أن نقدمه من تضامن إزاء هؤلاء الأشاوس فى غزة الذين كانوا أفضل حالاً من إخواننا فى سوريا لأنهم كانوا على الأقل يتمترسون بأجنحة عسكرية وأجهزة أمنية مسلحة تستطيع أن تصد الهجوم البرى، وتبادل الغزاة النار، وتشتبك معهم برغم قلة العتاد. الآن، والنظام الصهيونى الحاكم فى دمشق يرتكب أكثر مجازره فظاعة، ويزيد من وتيرة عدوانه على الشعب السورى المسلم تزامناً مع وصول شهود الجريمة العرب، ويتجاوز فى كل يوم ما كان يرتقى فى غزة، ويتآمر على هذا الشعب أنظمة كثيرة فى الشرق والغرب، وتخنس فيه الأنظمة العربية خوفاً من إغضاب سيدها الأمريكى، وخشية من استفزاز واستعداء يده المطلقة فى الخليج العربى/إيران؛ أفلا يكون لطليعة الشعب المصرى وقفة أخلاقية وكلمة مسموعة وحضوراً تاريخياً وموقفاً يغسل عار مصر من شهود هذه الجريمة النكراء دون تحريك بنان أو إصدار بيان احتجاجاً على هذا العدوان الوحشى على أبدال الشام ودرع الإسلام وعنوان الفداء؟! فما الذى يغل أيدينا؟ أهى الفترة الانتقالية التى نريد أن نبدو فيها ملكيين أكثر من الملك؟! إن شيئاً من إظهار سياستنا الخارجية هو استعلاء بمنهجنا ومكاشفة ووضوح أمام الجميع، بأننا نريد لمصر ألا تكون مصر مبارك، وإنما مصر العزة وشارة العرب وشامة المسلمين، أو لا؛ فلا أقل من أنها مصر التى تحترم حقوق الإنسان أى إنسان إن لم يكن عربياً أو مسلماً، وتأنف من رؤية الدم الطاهر يسفك بلا جريرة، وتستنكف أن ترى فى لحظة الضعف والهوان وشهادة الزور.. وما الذى يكبلنا مواقفنا؟ أهو الرغبة فى عدم "إحراج" حماس؟! نعم، هى الحركة محشورة الآن فى زاوية ضيقة صعبة، لكن ذلك لا يعنى أن تنحشر كل حاضنتها ومرجعيتها الدولية فى مساحة غزة الصغيرة مع تقديرنا الكامل لأهلها ، إن أكثر من ثلاثين مليوناً يعانون الأمرين فى سوريا، ويكتم ملايين غيرهم أنفاسهم فى لبنان خشية الفتك بهم، ويتطلع عشرات الملايين غيرهم فى العراق وحتى الأقلية المضطهدة فى إيران، والعديد من البلدان للمشهد فى سوريا أملاً فى الفكاك من هذا الأخطبوط/المحور العدوانى الرهيب؛ فأين تتموضع طليعة مصر الجديدة فى هذه الخريطة التى يعاد رسمها بإرادة شعبية فولاذية سيحكيها التاريخ يوماً ويغض الطرف عنكم. ولا يظنن ظان أبداً أن القيم والأخلاق يمكن أن تتجزأ، وأن الأولويات يمكن أن ترحل، وأن التاريخ سيرحم؛ فمصر تعيش لحظة يمكنها فيها أن تشهد مليونيات بلا استئذان وبلا حسابات كثيرة ويقف عشرات الآلاف حول السفارة الصهيونية لحكام دمشق بالقاهرة مثلما وقفت الآلاف من قبل حول السفارة الصهيونية لتل أبيب، ليعلم العالم كله، الذى يساند الطغمة الحاكمة فى سوريا أن لأهلنا رجالاً هنا فى أرض الكنانة لا يرضون بالضيم والهوان ويأبون أن دينهم وكرامتهم وقيمهم وأخلاقهم أن يمس السوريون بأذى وهم يعالجون هنا حسابات وهمية ويستدرجون بعيداً عن مشاكل مصر القومية الرئيسية وأمنها الممتد حتى الشام، وعراقتها وتاريخها المساند لكل الشعوب الحرة فى المنطقة العربية والإسلامية، ويعلمون أن موقف النظام الحاكم فى مصر الآن من الثورة السورية لا يمثلنا كمصريين نعرف معنى الأخوة الإسلامية والعربية، وندرك كوننا الدولة الشقيقة الكبرى لكل شعب يعيش تحت نير القهر والاستبداد فى عالمنا العربى. إننى أدعو طليعة المصريين اليوم، الذين زكاهم شعبنا الثائر، ومنحهم ثقته، وفوضهم الحديث نيابة عنهم أن يكونوا على قدر المسؤولية، وأن يترفعوا على كل خلاف، ويطرحوا كل حساب، ويهبوا لتخفيف الأذى عن امتداد مصر الطبيعى (أرض الشام)، ويتنادون إلى مليونية حاشدة، تضع القاطرة المصرية على السكة الحقيقية لاستعادة دورها الأخلاقى قبل الإقليمي، وهما صنوان لا يفترقان. ليقولوا إنكم قد تركتم مشاكل مصر وانشغلتم ب"الآخرين"، أو أنكم تتاجرون بالآلام.. ليكن، لكن ليفهم الجميع أن اغتصاب مئات الحرائر فى سوريا، وسحل آلاف الجثث، وتعذيب عشرات الآلاف ليس أهون عند أحرارنا من نساءنا ورجالنا وأطفالنا.. لنثر فى الميدان بجموع هادرة تخرق أصواتها جدار الصمت والتواطؤ وتصل بصداها إلى تحت عرش الطاووس الأسدي، وليسبق موقف الشعب المصرى مواقف الساسة ووفودهم ولجانهم الهزيلة. [email protected]