ظلت ذاكرة الرأي العام المصري تعي عبارة واحدة تداعب المخيلة وتستوطن الوجدان , حين يرد ذكر ( حلمي النمنم ) الكاتب الصحفي , ووزير الثقافة الحالي : (..مصر علمانية بالفطرة ! ) و رأى كثيرون من المراقبين و المحللين أن هذه العبارة التي ندت عن النمنم في اجتماع أريد له أن يكون مغلقا ( غير متلفز ) و جرت الرياح على غير ما تشتهي السفن , أقول رأى كثيرون من المراقبين أن هذه العبارة مفرطة الفجاجة و الفحش الحضاري , و الممعنة في استفزاز الحس الديني , هي أعلى سقف بلغته العلمانية اللادينية المتطرفة في مصر بعد الثالث من يوليو 2013 , أو حتى في العقود الأخيرة عموما ! لم يرد المجتمعون بالطبع , و في جملتهم النمنم , في الاجتماع المنوه به و الذي أدارته فيما يبدو المستشارة ( تهاني الجبالي ), أن تكون حواراتهم ( معلنة ) للميديا , لكن يدا مجهولة صورت الاجتماع بكاميرا المحمول أو بكاميرا فضائية لم يلحظها أكثر الحضور, و قامت بتسريب المسكوت عنه و توزيع المقاطع المسربة _ عن طريق اليوتيوب ( الإعلام البديل ! ) _ فوصلت عبارة النمنم إلى الجميع و أثارت موجة استنكار و غضب لافح بامتداد مصر , ربما سببت حرجا كبيرا للسلطة فيما بعد ! لكنها صنعت _ في المقابل _ من النمنم بطلا قوميا لدى بعض الدوائر الفكرية التي تعامل الفكرة الإسلامية و ممثليها , أيا ماكان اعتدالهم في المجمل , بنقمة إيديولوجية موتورة , لا تبالي في سبيل إزاحة الخصم من الطريق , بأية معايير علمية أو موضوعية أو حتى أخلاقية ! وجد النمنم ذاته _ بالمصادفة _ بطلا مفترضا , على هامش تصريح لم يرد له منذ البداية أن يكون معلنا على نطاق واسع , و لكن هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي و آلياتها الكثيرة المتاحة , كان لها رأي آخر ! و لم تكمن الطبيعة المتطرفة في تصريحات النمنم في المقطع الشهير المسرب , فقط في دعوى ( العلمانية الفطرية ) لمصر , و إنما في التأصيل لمنهج الاستباحة المطلقة بإزاء تيار فكري معين, و ( شرعنة الدماء ) أو منح المبرر ( الظاهري ) لإراقتها فوضويا دون مساءلة , و بدا ذلك بوضوح لدى قوله : ( ..مافيش ديمقراطية ..مافيش مجتمع انتقل إلى الأمام بدون دم ! ...) , كان النمنم يقول ذلك بوعي كامل بأن الفضاء العام محتقن , و الأجواء مكهربة تماما بين المؤسسة العسكرية و التيارات الإسلامية _ آنذاك _ و أن هنالك جهات ما داخل السلطة نفسها و خارجها , كانت تسعى للوساطة حتى اللحظات الأخيرة تجنبا لشلال الدم أو شق حالة السلم الأهلي لفترة طويلة قادمة , لكن تصريحات النمنم كانت تستعجل المواجهة الداخلية و تستحثها , بما يجاوز الإلحاح , و كان ما كان , وما زالت مصر تحاول _ بخلع الأضراس _ تضميد الجراح النازفة بغزارة حتى الآن , دون أن يلوح ثقب أمل بعد وصول المسار العام إلى مناطق ضبابية مؤرقة محفوفة بعشرات المخاطر داخليا و خارجيا ! و كانت تصريحات النمنم , دون جدال , جزءا من وقود التحريض المرتبط بهذه المرحلة و كان النمنم نفسه واعيا بأن الفرصة المواتية للإطاحة بالتيار الذي يبغضه قد لا تتكرر , و هو ما يتضح في قوله في التصريح نفسه : ( ..هذه هي اللحظة المناسبة ..! )و هي عبارة تغني براجماتيتها الواضحة عن أي تعليق ! و غني عن البيان أن هذه التصريحات قد شقت للنمنم , طريقا ممهدا إلى الفضاء السياسي العام حينئذ , ضاعف بالقطع من أرصدته في مناخ الاستقطاب , الذي تحول بفعل مدرسته الماضية في النهج نفسه , إلى ما يشبه ( مناخ الاستباحة ) . و الملحوظ أن الذهول العام لدى أكثر المصريين كان هو السمة الغالبة , مع إعلان نبأ تولي (النمنم ) حقيبة وزارة الثقافة , التي تناوب عليها اثنا عشر وزيرا في السنوات الخمس الأخيرة ! بدأ النمنم حياته في أروقة مؤسسة ( الهلال ) , و أصبح فيما بعد مديرا لتحرير مجلة ( المصور ) , و تطورت مساراته ليصبح رئيسا للهيئة القومية لدار الوثائق و الكتب , وقائما في الفترة نفسها بأعمال رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب بعد رحيل د ( أحمد مجاهد ) . و تخلل مسيرته العمل مسؤولا بإدارة النشر في المجلس الأعلى للثقافة , و كان حريصا في بطاقة التعريف بنفسه أن يصدر اسمه دوما بعبارة ( المؤرخ ) أو ( الباحث التاريخي ) , و حين يمعن القاريء في تتبع كتبه من مثل : ( علي يوسف و صفية السادات ) ,أو ( الفكر العربي و الصهيونية و فلسطين ) أو ( سيد قطب ..سيرة و تحولات ) أو ( حسن البنا الذي لا يعرفه أحد ) أو ( الأزهر ..الشيخ و المشيخة ) أو دراساته القشرية حول ( الماسونية ) في مصر , لا يلحظ أي تمتع بأدوات المؤرخ و عدته العميقة المتنوعة و تثبته من المعلومة التاريخية في مظانها و مصادرها , و إنما يلحظ في الحقيقة معالجات صحفية سريعة نيئة شديدة الفجاجة , متعجلة الاستنتاج على نحو مدهش ! تولى النمنم , من ثم حقيبة وزارة الثقافة فوق بحر من الرفض الداخلي الغالب الممزوج بالدهشة , فضلا عن رفض خارجي قادته السعودية التي لم تخف استياءها من توليه حقيبة الثقافة المصرية و هو المعروف بعدائه الشديد للسعودية , العداء الذي جهر به في كل مناسبة تقريبا , و عبرت المملكة عن سخطها من الرجل في عدة تصريحات و تغريدات ل ( جمال خاشقجي ) , و أبرزها قول خاشقجي في تغريدة : ( ..حري ( بمصر ) ألا تعين وزيرا أمعن في الإساءة للمملكة ..! ) وكان النمنم دائما منذ عرفته , مندفعا في إبراز مواقف التأييد أو العداء دون أناة , و نالني بعض هذا الاندفاع , حين عاتبني _ شفاهيا _ في إحدى المناسبات بسبب التزامي بالفصحى ( المعطلة ) _ كما يقول _ في الأحاديث التليفزيونية , لكن العتاب الخجول هونا ما تحول إلى إعصار رافض مشتعل بالغمز الضاري , حين كتب مقالا ناريا ضدي في ( المصري اليوم ) قبل عام , معقبا على صدور حكم ضدي في قضية كانت منظورة أمام المحكمة الاقتصادية بيني و بين أحد الصحفيين و متبنيا موقف خصمي بطبيعة الحال دون أن يدري ( أو لعله يدري ! ) أن الحكم محل النقاش مطعون عليه أمام محكمة النقض , و حين أنصفتني محكمة النقض _ بفضل الله وحده _ بصدور حكمها بإيقاف التنفيذ على غير ما أراد النمنم و الصحفي , تعالى النمنم عن التعليق أو التراجع أو الاعتذار عما بدر منه و التزم صمت القبور ! و لا يعنيني هنا الشق المتصل بالسعودية أو بي أو بشريحة واسعة من الرأي العام رفضت تولي النمنم وزارة الثقافة , و إنما يبقى سؤال عريض : ( ماذا قدم الرجل فعليا لوزارة الثقافة سوى المعارك المفتعلة و الأوهام ؟! ) لقد تبنى منذ اللحظة الأولى لتوليه الوزارة ما يسميه ( تشومسكي ) : ( الإلهاء الاستراتيجي ) , بمعنى صرف الأنظار عن ملفات الفساد و الاهتراء و الصفقات المريبة داخل وزارة الثقافة , بافتعال معركة في مساحة أخرى مع ( حزب النور ) ليظهر فيها شهيد فكر , و هىي معركة ليست بعيدة عن نظرية المصريين الشعبية العريقة : ( ..بص العصفورة ! ..) و كان غبار المعركة المفتعلة مع حزب النور كفيلا بصرف الأنظار عن ملفات الفساد الرهيب و نهب المال العام داخل وزارة الثقافة , و هي الملفات التي زودني بعض الشرفاء بمستنداتها الوافية , و التي زكمت الأنوف و أثبتت بغير شك أن النمنم لم يواجه أزمة واحدة كبيرة داخل وزارته و إنما باع للمثقفين الترام ! و مثالا لا حصرا ظل النمنم يرفض بشدة , حين كان يرأس دار الوثائق و الكتب , و مازال رافضا , أن يجري أي جرد ل ( المخطوطات ) داخل دار الكتب , مخافة أن يفتضح أمر فقدان عشرات المخطوطات المهمة بما يثير ضده النقمة و المساءلات القانونية , و كان يقول للصحفيين غير المتخصصين مستغلا عدم معرفتهم بالأمر : ( لقد أجرينا جردا ؟ ) و الكلام في ظاهره صحيح فقد تم جرد البرديات , دون أن يقترب الجرد من المخطوطات حتى لا ينكشف المستور ! و على المستوى المالي ظل النمنم ملتزما بالنهج المفضل لسابقيه في مضاعفة مكافآت القيادات الكبيرة فقط , دون الاقتراب من الشريحة الوظيفية العريضة و المهمشة داخل وزارة الثقافة فقد كان النهج المتبع _ و مازال _ تزويد رؤساء الإدارات المركزية بمبالغ تتراوح بين أربعة آلاف و ستة آلاف جنيه, و حين اقتربت الزيادات بفعل الزخم الثوري المصاحب لثورة 25 يناير , من الطبقات الوظيفية المهمشة بما قيمته مائتا جنيه , شهد عهد النمنم محاولات حثيثة انتهت فعليا بإلغاء المائتي جنيه ( و هو مبلغ زهيد أصلا ! ) دون أن تمس مخصصات القيادات الكبيرة ! و لن أتحدث عن الفضائح المدوية في سياسات الانتداب الجزئي و الدفع ببعض الشخصيات في دار الكتب و غيرها دون أي استحقاق لمجرد أن هذه الشخصيات ذات صلة بإعلاميين كبار يمكن أن يضمنوا لبعض القيادات عمليات التلميع الإعلامي المطلوب ! و لن أتحدث هنا عن الأزمة الرهيبة التي صاحبت التشكيل الأحدث للجان المجلس الأعلى للثقافة ضمانا لبقاء الوجوه الأزلية ( المؤبدة ) وهي الأزمة التي بادر النمنم ب ( الغلوشة ) عليها إعلاميا , حيث جرى الالتفاف حول اللوائح القاضية بتغيير ثلث الأعضاء داخل اللجان ضمانا للتجدد , و جرت الجريمة القديمة الجديدة , بحصول التجديد لنفس ( الثلث ) المستهدف , مع بقاء الثلثين المتكررين في كل تشكيل دون تغيير لتستمر العضويات الدائمة و يتمتع اللوبي المهيمن بذات المزايا دون أن تمس مزاياه أو يمس وضعه داخل اللجان ! و لن أتساءل ما الذي فعله النمنم لعلاج الكاتب الروائي الكبير ( محمد جبريل ) الذي هده المرض و تطلب جراحة عاجلة مكلفة , كما لن أتساءل عن رد فعل النمنم بعد اقتحام دار ( ميريت ) و ما صاحب ذلك من استياء واسع بين المثقفين , و لن أتساءل عن إشادة النمنم في أحدث تصريحاته بفاروق حسني , الذي رآه النمنم غير مسئول عن أزمات وزارة الثقافة برغم فترته الماراثونية , أو إشادته قبل أيام بمبارك و ( ماما سوزان ) , كما لن أتساءل عن سياسة النمنم الواضحة بتكريس وضع وزاري يكتظ بولاءات ( مبارك ) داخل وزارته , كما أنني لن أتساءل عن جدية عداء النمنم للتيارات الإسلامية , و هو الذي طلب من ( القرضاوي ) قبل سنوات , بما يشبه الإلحاح , أن يمد ( الهلال ) بأحد كتبه و تم طبع الكتاب بالفعل : ( فقه الصيام ) في مؤسسة ( الهلال ) , على أن يتنازل القرضاوي عن أية مستحقات مالية , و زف النمنم خبر الكتاب _ آنذاك _ للجماهير بفخر , لا يقل عن فخره حين أجرى حوارا صحفيا مع القرضاوي لمجلة ( المصور ) مشيدا باعتداله _ آنذاك أيضا ! _ لكن يحق لي أن أتساءل : ما الذي قدمه النمنم فعليا لوزارته و لمصر سوى الأوهام ؟! و هل نحن بإزاء فشل يترسخ ..( بالفطرة ) ؟!