كثير من قصص الأطفال العالمية، التي قرأناها أو حُكيت لنا في مرحلة الطفولة تظل عالقة في ذاكرتنا مهما تقدم بنا العمر، بل إن كثيرًا من تلك القصص التي غالبًا ما تكون خيالية، قد كُتِب لها الاستمرار؛ وذلك لما تحمله من دلالات متجددة في كل عصر ومكان، وكلما تقدم الإنسان في العمر أدرك منها جانبًا لم يكن واضحًا في سنٍّ معينة، ولذلك أرى أنه من الخطأ أن يتم شرح القصة للأطفال، وبيان ما تهدف إليه وما بها من دلالات وأسرار وحكمة.. بل الأجدى أن تُحكى لهم فقط أو أن تتاح لهم قراءتها وسوف يتلقى كل منهم ما يناسبه من دلالاتها كل في زمانه ومكانه. ومن القصص التي قرأناها في طفولتنا، وظلت عالقة في الذاكرة، قصة (عازف الناي) وهي من الفلكلور الألماني؛ تحكي القصة أنه في بلدة "هاملن" المطلة على نهر "الويزر" فوجئ أهالي البلدة بأعداد كبيرة من الفئران تهاجم بلدتهم, وقد غطت الفئران الأرض وبدت كأنها سوداء، وتملك الأهالي الرعب من الفئران, ولم تنفع كل الحيل للتخلص منها, لجأوا إلى نصب الشّراك، ووضع السم، كما استعانوا بالسَّحرة, ولكن كل هذا لم يجدِ، فأعداد الفئران وشراستها كانت تفوق الحصر، وأخيرا جمع أهالي القرية القطط من بلاد مجاورة واستقدموا على باخرة 1100 قطّ، لكن هذا الحل أيضًا لم ينفع في شيء, فكان الأهالي عندما يتخلصون من بعض الفئران يفاجأون بأعداد أخرى أكثر شراسة. وذات يوم قَدِمَ إلى البلدة رجل غريب يحمل جرابًا، وطلب مقابلة (العمدة).. وبالفعل تقابل معه وعرض عليه أن يتكفل بإبعاد جميع الفئران عن البلدة مقابل مائة قطعة ذهبية، ولم يتردد العمدة والأهالي في قبول هذا العرض رغم أن المبلغ المطلوب كان كبيرًا, وبمجرد الاتفاق على ذلك. إذا بالغريب يخرج من جرابه نايًا برونزيًّا، ثم اتجه إلى ساحة البلدة, وبدأ في عزف ألحان غريبة لم يسمعها الناس من قبل, وصل صداها إلى كل مكان في البلدة. وكانت المفاجأة أن الفئران غادرت مخازن الحبوب والدهاليز والأقبية لتشكل مسيرة كبيرة لا يُعْرَف أولها من أخرها، واتجهت نحو ذلك الغريب وهو مستمر في عزفه, وعندما أدرك أن جميع الفئران حضرت أمامه وقد قيَّدَتها أنغامه الغريبة فلا تستطيع أن تغادره, اتجه إلى نهر "الويزر" فخلع حذاءه وخاض النهر، وانطلقت الفئران خلفه كأنها مُخَدّرة, فغرقت جميعها وهي لا تبالي بالغرق, ولم يبق في البلدة إلا فأر أبيض مسنّ.. وإذا بعازف الناي يعزف لحنًا أغرب من الأوَّل, وشاهد الأهالي آخر فأر من الفئران المتجهة إلى النهر يختفي بسرعة في زقاق من أزقة البلدة، ثم عاد يجرُّ الفأر العجوز من ذيله في اتجاة النهر وغرق الاثنان.. وهكذا نجت البلدة وعاد إليها الأمن. اتجه الغريب نحو العمدة ليتسلم مكافأته المتفق عليها, لكن العمدة ومعه الأهالي تراجعوا عن وعدهم, عندما زال الخطر عن بلدتهم, وعرضوا عليه عشر قطع ذهبية فقط؟ مستغلين أن الغريب وحيد، وليس لديه ما يحميه، أو يدافع عن نفسه به، أو يجبرهم على دفع حقه المشروع والمتفق عليه بينهم.. واحتج الغريب بقوة وتمسك بحقه، في أن يحصل على القطع الذهبية المائة المتفق عليها فهذا هو العدل.. ولما أصر على موقفه إذا بالعمدة والأهالي يطردونه من بلدتهم بكل غلظة وجفاء.. فمضى كسيرًا مهزومًا ولكنه توعدهم بأنهم سيدفعون الثمن غاليًا. لم يكترث الأهالي والعمدة بتهديده، ودوَّت الساحة بالقهقهات وكلمات الأزدراء في حقه.. ومضى الرجل إلى حال سبيله. وبعد أسابيع.. في ظهيرة يوم جمعة عاد عاد عازف الناي إلى تلك البلدة الظالمة، وأخرج من جرابه نايًا مختلفًا عن نايه الأول, وبمجرد ما بدأ عزفه إذا بكل أطفال البلدة من سن السادسة إلى سن الخامسة عشرة يجتمعون حوله، وتحرك عازف الناي في اتجاه مدخل البلدة والأطفال يتبعونه في مشهد مُدهش. ولم يكن باستطاعة الأهالي أن يفعلوا أي شيء, فقد كان للعزف تأثير عجيب على الجميع كأنّهم في حالة تخدير.. انطلق عازف الناي إلى كهف في جبل مطل على البلدة، وهو مستمر في عزفه الآثر وجميع أطفال البلدة خلفه.. والأهالي ينظرون إليهم وهم سامدون.. وبدأ صوت الناي يتلاشى شيئاً فشيئًا.. وصورة الأطفال تبتعد عن الأعين رويدا رويدا.. إلى أن غاب الصوت وغابت الصورة وضاع الأطفال إلى الأبد.. كنا ونحن صغار نأخذ من القصة درسًا بسيطًا بقدر عقولنا.. يتمثل في أنه لا ينبغي لنا أن نتبع الغرباء، وأن نتشبث بأُسَرِنَا وبيوتنا حتى لا نضيع. أما الآن فقد أدركنا ذلك الدرس الأعمق من قصة عازف الناي؛ إن الأطفال هم المستقبل، وإنه إذا شاع الظلم في بلد، وغابت عنه العدالة ضاع المستقبل لا محالة.. وغالبا يدفع الأطفال الثمن..