لم تكد تمضي ساعات قليلة على قرار استدعاء نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي إلى القضاء وتوقيفه، حتى استيقظت بغداد فجر الخميس 22 ديسمبر 2011 على وقع انفجارات متزامنة، أدت إلى مئات الجرحى والقتلى. وهو ما يمثل لدى مراقبين رسالة سياسية واضحة لما ستفضي إليه الأزمة السياسية الحالية في بلاد الرافدين. اندلعت الأزمة بعد أن لجأ رئيس الحكومة إلى سلاح الاتهام بالإرهاب ضد صالح المطلق، الشخصية السنية المعروفة، ومن ثم طارق الهاشمي، وعدد كبير من السياسيين السُّنة، مما أدّى عمليًا إلى تعطيل الحياة السياسية، بعد أن أحجم وزراء الكتلة العراقية ونوابها عن حضور مجلس الوزراء والبرلمان العراقي. بعد الاستقرار النسبي الذي شهده العراق خلال السنوات الماضية، تخلل ذلك تراجع واضح في حضور القاعدة ونشاطها، وتحول استراتيجي مهم في وجهة المجتمع السني نحو الاندماج في العملية السياسية، بعد أن كانت هذه الكتلة خلال السنوات الأولى لاحتلال العراق (2003-2007) بمثابة الحاضنة الاجتماعية للعمل المسلح. انفجار هذه الأحداث غداة خروج الجيش الأمريكي من العراق، بالتوازي والتزامن مع تعاظم الأزمة السورية واتخاذها ملامح طائفية يدفع إلى صعود تساؤلين رئيسين؛ الأول حول التوقيت والدلالة، والثاني حول التداعيات المحتملة داخليًا وإقليميًا.. على ماذا يراهن المالكي؟ الأزمة بدأت مع جملة الاتهامات الخطرة من رئيس الوزراء المالكي ضد القيادات السنية في الحكم، وهو ما كان بالضرورة سيؤدي في أبسط الحسابات إلى ارتفاع منسوب القلق والتوتر الداخلي، أو حتى الانفجار السياسي والأمني، والعودة إلى المربع الأول من العنف الداخلي، واحتمالات الحرب الأهلية؟ فهل هذا السيناريو سيخدم المالكي وحلفاءه من القوى الشيعية؟ أم أنّ هنالك رسالة تتجاوز المالكي ترتبط وفقًا لمحللين ومراقبين بالأجندة الإيرانية في المنطقة؟ إذا كانت إيران تريد توجيه رسائل إلى خصومها السياسيين، فعلى ماذا يراهن المالكي عندما يجرّ الدولة إلى حافة الانفجار، بخاصة أنّ الرد جاء دمويًا، في اليوم التالي، وواضحًا بصورة مباشرة، بأنّ مثل هذه الخطوة هي لعب بالنار، وهو ردّ لا يستبعد أن يكون المالكي متوقعًا له، ربما بأقل من هذا الحجم؟ قد تؤشر دعوة المالكي إلى مؤتمر تتم فيه مناقشة هذه التهم الموجهة للأطراف السنية إلى أهداف الرجل، التي تتمثّل في الإمساك بأوراق سياسة مهمة (الإرهاب) في مواجهة خصومه السياسيين، بخاصة القائمة العراقية، التي تتوازى في قوتها السياسية معه، سعيًا لابتزازها سياسيًا، وإضعاف تماسكها، وإرضاءً لأوساط شيعية متشددة، كالتيار الصدري، الذي انتقل من يسار القوى الشيعية في بداية الاحتلال إلى يمينها، سواء في العلاقة مع السنة أو حتى إيران! توقيت الانفجارات وحجمها وقوتها بمثابة رسالة سياسية، أيًا كان الفاعل، سواء القاعدة أو قوى سنية غاضبة، أو حتى قوى تريد تفجير الوضع في العراق، لكن المهم أنّ فحوى الرسالة هو أنّ المسار الحالي الذي يرسمه المالكي لن يؤدي إلى تعزيز قوته في مواجهة الخصوم، وإنما إلى جرّ البلاد إلى دوامة جديدة من العنف الذي يستنزف الجميع، ولن يستفيد منه أحد. في الجهة المقابلة لهذه الزاوية من التحليل، يرى طلال عتريسي، المحلل الاستراتيجي اللبناني، في تصريح خاص لسويس أنفو، نقلًا عن مصادر عراقية مقربة من المالكي أنّ هنالك أساسًا واقعيًا لهذه الاتهامات، ذلك أنّ أطرافًا رسمية عربية غير راضية على حكومة المالكي، ولا تريد استمرارها، وتسعى إلى تغييره. وفقًا لتحليل عتريسي، فإنّ ما قام به المالكي بمثابة “ضربة استباقية” لما يريد خصومه القيام به، ولعلّ ما يعزز هذا التحليل أنّ الرد على خطوة المالكي جاء بعد ساعات قليلة، بتفجيرات على قدر كبير من الاحتراف والتركيز، وهو عمل يحتاج إلى جهد وإعداد كبير، وعمل استخباراتي، وهو ما لا يمكن تحقيقه خلال ساعات قليلة. السيناريو الثالث يتمثّل بمنطق “المصادفة”؛ ويرتبط بتنظيم القاعدة الذي كثّف من عملياته ونشاطه في الأشهر الماضية في محاولة للعودة إلى المشهد العراقي، وقد أعد مسبقًا لهذا العمل بمناسبة خروج القوات الأمريكية من العراق، وهو ما تزامن مع انفجار الأزمة السياسية، فجاءت الانفجارات بمثابة “إنذار” تحذير خطر لجميع الأطراف جوهره أنّكم تملكون بَدْء الأزمة السياسية، لكنكم لا تعرفون أين تنتهي. على أعتاب “انفجار طائفي” إقليمي على وقع الاتهامات للشخصيات السنية والتفجيرات المدوية – الدموية، عاد العراق إلى سيناريو الجحيم الطائفي، لكن مع احتمالات أكثر خطورة في الأزمة، ذلك أنّه لا توجد قوات أمريكية يمكن أن تفصل بين الطرفين، بل على الأغلب ستكون هنالك انقسامات داخل الأجهزة العسكرية والأمنية بحد السكين الطائفي، وهو ما يعيدنا – بصورة أبشع – إلى مشهد القتل على الهوية والتصفيات الجسدية والتطهير المتبادل والرعب، والانزلاق إلى مستنقع يدفع ثمنه – في نهاية المطاف – المواطن العادي، إذا لم يراجع المالكي مواقفه الأخيرة، ويتخلّى عن “اللعبة الخطرة” التي أدخل فيها البلاد. وفي الوقت الذي يتوقع فيه عتريسي (في حديثه ل swissinfo.ch ) ألا تنتقل “العدوى الطائفية” إلى خارج الحدود، لتشتبك مع التوترات الشبيهة في سوريا ولبنان، لوجود قرار سعودي وإيراني - كما يقول – بعزل الأحداث ضمن المربع العراقي، إلاّ أنّ المحلل السياسي اللبناني، حازم الأمين، يختلف معه في ذلك، ويجد رابطًا إقليميًا خطرًا بين ما يحدث في هذه الدول الثالث ويهدد بتفجير المنطقة طائفيًا، على وقع الأزمة السورية، كما صرّح ل swissinfo.ch . يحيل الأمين توقيت المالكي لقراره بتفجير المعادلة السياسية العراقية بالاختلافات الجذرية بين القوى الشيعية التي يمثّلها والسنية التي يمثّلها الهاشمي من الثورة السورية، ويحذّر من دخول القاعدة على خط هذه الأزمة المتفاقمة، مما يعني أنّنا سنكون أمام رسائل دموية في الأيام المقبلة. القاعدة باتت "جوكرًا" لا تعرف من يستخدمه ويوظفه في الأزمات، وهو ما حدث تمامًا في تفجير المراكز الأمنية في دمشق، إذ أكدت السلطات هناك أنّ القاعدة تقف وراء التفجير، في إشارة توحي (أولًا) بالصلة بين الثورة والقاعدة، وفيها تحذير (ثانيًا) من عاقبة الفوضى وسقوط النظام الحالي، فيما ترى أطراف عربية ودولية أنّ النظام السوري هو من يقف وراء التفجير لإعاقة عمل فريق المراقبة بالجامعة العربية وتخليط الأوراق السياسية. هنالك من لا يريد انتشار الربيع الديمقراطي العربي، ويريد أن يقلبه إلى خريف طائفي، ويحرق الأخضر واليابس، ومن الواضح أنه لم تكن هنالك صلات مباشرة بين ما يحدث في دمشق وبغداد وحتى بيروت (الحديقة الخلفية للأزمات الإقليمية) وأنّ معادلة سقوط النظام السوري تتجاوز الثورات السابقة إلى محاولات تفجير المنطقة بأسرها!