مراكز الأبحاث الأمريكية دربت كوادر من القاهرة و"تل أبيب" بعد العدوان الثلاثى بعامين - مركز "أرجون" استدرج مصريين للتعاون مع باحثى إسرائيل.. والسفير المصرى بواشنطن يتجاهل تقريرًا سريًا بذلك - البنتاجون فضح السر بوثيقة "WR15-84" فى 1984.. ومؤرخ هندى رصدها بموسوعة مُنعت من التداول فى القاهرة - د.عزت عبد العزيز: الأمريكان فتحوا "معمل البلوتونيوم" المحظور للباحثين الإسرائيليين.. والقاهرة لم ترد على مذكرتى حتى اليوم - د.إبراهيم العسيري: البرنامج النووى الإسرائيلى صنيعة "فرانسو- أمريكية".. وازدواجية المعايير حرمت مصر - د.محمود بركات: أمريكا هربت شحنات انشطارية إلى "تل أبيب".. وخططها النووية تحت تصرف إسرائيل منذ الأربعينيات
"يبدو أنك من مصر يا عزيزي".. أخرجت تلك العبارة الإنجليزية الشاب المصرى الذى اندمج فى مطالعة بعض الأوراق التى شغلته عن تناول حسائه داخل غرفة الطعام الرئيسية بمعمل أرجون القومى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، نظر إلى محدثة مبتسمًا قبل أن يمد يده مرحبًا: "هذا صحيح يا صديقي.. اسمى عزت عبد العزيز.. تفضل شاركنى الغذاء". جلس الرجل داعيًا رفيقه الذى لم يلاحظه الشاب فى بداية الأمر، كان يبدو من هيئتهما أنهما أوروبيان شرقيان جاءا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لتلقى تدريبات متقدمة فى علوم الطاقة الذرية، كانت بشرتهما البيضاء وملامحهما الجامدة تشير إلى بيئتهما الريفية الثلجية التى خرجا منها، تنحنح الرجل "الأوروشرقي" قاطعًا حالة الصمت التى أطبقت على الطاولة منذ أن جلس قائلاً بإنجليزية ركيكة: "أنت هنا ضمن فريق علمي مصري أم أنك تتلقى علومًا بشكل مستقل مستر عزت".
تعجب الشاب من هذا التساؤل العجيب، كان يبحث عن تفسير عن حالة القلق والريبة التى انتابته فجأة من هذين الشخصين، لقد رآهما غريبى الأطوار، متطفلين بعض الشيء، ورغم ذلك ابتسم قائلاً: "هناك أكثر من طالب مصرى يتلقون علومهم هنا فى أرجون.. ولكن هذا لا يعنى أننا نعمل فى فريق واحد.. أو أن الحكومة المصرية أرسلتنا إلى هنا". "أنا من إسرائيل".. كانت العبارة التى قلبت أجواء الطاولة رأسًا على عقب، فعزت عبد العزيز ذلك الشاب الذى لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره لا يزال يذكر ما فعلته تلك الدويلة المحتلة من مجازر فى حق الشعب الفلسطينى عقب إعلان دولتها منذ 10 سنوات، كما أنه رأى بعينه كيف أن جنودها حاولوا أن ينتزعوا سيناء فى عدوانهم الثلاثى منذ عامين فقط، وكيف أن التهم لم تفرق بين طفل وكهل، بين امرأة وفتاة.
تنحنح الإسرائيلى وقد شعر بما يعانيه الشاب من انفعالات بمجرد أن أفصح عن جنسيته، فاقترب منه قائلاً بصوت حاول أن يجعله هادئًا: "نحن باحثون يا صديقي.. وفى العلم تذوب الجنسيات.. والعلوم لا تعرف السياسة.. وليس له أى علاقة بما يحدث فى الشرق الأوسط"، لم يقنع ما قاله الشاب المصري، فظل صامتًا، كان عقله يشتعل بالكثير من الأسئلة، ماذا يفعل هذان الإسرائيليان هنا؟ وهل لتواجدهما فى أرجون أى علاقة بتواجد الفريق المصري؟ هل هناك أى خطورة من كونهم إسرائيليى الجنسية؟ وماذا يفعل؟ هل يلغى الرحلة العلمية؟ "اسمحا لى بالانصراف.. فلدى مطالعة بالمكتبة المركزية".. هكذا قطع عزت عبد العزيز تساؤلاته، وقبل أن يتلقى منهما إجابة شرع فى لملمة أوراقه لينصرف، تاركًا خلفه الإسرائيليين فى حيرة من أمرهما، أما هو فانطلق إلى المكتبة ورأسه تكاد تنفجر من التساؤلات، وكان السؤال الأخطر، هل خدعتهم الولاياتالمتحدةالأمريكية وقامت باستدراجهم إلى مراكز أبحاثهم ليتعاونوا مع العلماء الإسرائيليين ليبنوا برنامجهم النووى بالاستفادة من خبراتهم كعلماء زائرين فى علوم الذرة؟
بعد ستة عقود هذه الواقعة حدثت داخل مركز "أرجون" البحثى الأمريكى منذ ستين عاما، انشغل الشاب المصرى عزت عبد العزيز بأبحاثه بالمركز، وبمجرد أن انتهى من دورته بمركز "أرجون" عاد إلى مصر عام 1962، ليبدأ عمله بهيئة الطاقة الذرية وبمركز الأمان النووي، حتى تقلد منصب رئيس الهيئة، وداخل منزله بحى الزمالك بالقاهرة قرر أن يفصح عن بعض التفاصيل التى عايشها منذ ستة عقود ل"المصريون". فى البداية أكد الدكتور عزت عبد العزيز، أن أكثر ما أحزنه طيلة تلك السنوات الستين أن الدولة المصرية بحكوماتها المتعاقبة تجاهلت ما حذر منه، وأنه أرسل بالفعل مذكرة رسمية للقاهرة من خلال السفير المصرى فى واشنطن بنهاية عام 1959، ولكنه حتى اليوم لم يتلق أى رد عليها، مبينًا أن الخبراء المصريين الأكثر خبرة منذ عهد الدكتورة نبوية موسى تم استغلالهم فى تدريب الكوادر الإسرائيلية من خلال بعثات المصريين، ما ساهم فى بناء مفاعل ديمونة والبرنامج السرى لإسرائيل. وأوضح عبد العزيز أن البنتاجون فى عام 1984 قام بنشر وثيقة سرية رقم "WR15-84" فضح من خلاله السر النووى الإسرائيلي، منذ أن بدأت البعثات العلمية فى مركز "أرجون" للأبحاث النووية، مشيرا إلى أن المعلومات التى قالها الشابان الإسرائيليان بعفوية جعلته يتابع أعمالهما وأبحاثهما، وأنه لاحظ دخولهما معملا سريا ومحظورا على الوافدين الأجانب الدخول، يحمل اسم "Technology plutonium"، خاصا بتكنولوجيا استخلاص البلوتونيوم، وكان يحمل على بابه عبارة "سرى للغاية" لا يدخله سوى عدد قليل من العلماء الأمريكان. "شعرت بالقلق.. وقررت مراقبتهما".. هكذا أجاب على سؤالى عن ماذا فعل بمجرد أن شاهدهما يدخلان هذا المعمل، خاصة أنهما أفصحا عن نوعية العمل وعن الأستاذ اليهودى الأمريكى الجنسية الذين يعملان تحت قيادته، مؤكدا أنه فى المقابلة الثانية وجد المشرف الأمريكى اليهودى جالسا بمفرده فى الاستراحة فجلس بجواره ليستفسر منه عن معمل البلوتونيوم، ولماذا هو محرم على الكثير من الباحثين وأضحى حكرا على الإسرائيليين؟ ولكنه تخوف منه وتركه وغادر الاستراحة دون أن يتحدث بكلمة واحدة، ولكنه أصدر قرارا بمنع الباحثين الإسرائيليين من الاختلاط به.
مفاعل ديمونة الغريبة أن الدكتور عزت عبد العزيز ذلك الشاب المصرى فى مركز أرجون لم يكن سبب قلقه من الحوار الذى دار بينه وبين الشابين الإسرائيليين، ولكنه شعر بالقلق والتوتر بمجرد أن قرأ خبرًا فى إحدى الصحف الأمريكية فى مايو 1959 يقول نصًا: "فرنسا تعقد اتفاقية مع إسرائيل لبناء مفاعل فى ديمونة من النوع الذى يعتمد على الماء الثقيل"، مشيرا إلى أن إسرائيل قبل نشر هذا الخبر لم يكن لها أى أنشطة نووية، وأن شعوره بالقلق كان نابعًا من الخبر ومن طبيعة تدريب الباحثين الإسرائيليين فى معمل تكنولوجيا البلوتونيوم، خاصة أن الخبر أكد أن فرنسا ستبنى مفاعلاً من النوع الكاندو الذى ينتج البلوتونيوم والذى يدخل فى إنتاج القنابل الذرية، ما أصابه بنوع من الانزعاج.
وقال عزت إنه سأل السفير المصرى فى واشنطن فى ذلك الوقت الدكتور اشرف غربال إذا كان قد قرأ خبر مفاعل ديمونة التى تريد فرنسا إنشاءه ويعتمد على استخراج البلوتونيوم، وأنه أعد له مذكرة رسمية بكل التفاصيل التى حدثت داخل مركز الأبحاث الأمريكية فى خطاب سرى وضرورة نقلها إلى القاهرة للضرورة، مشيرا إلى أنه لم يتلق أى رد حتى اليوم. وقبل احتفالات رأس السنة عام 1965 تلقى الدكتور عزت عبد العزيز اتصالا هاتفيا من السفارة الأمريكية تطلب منه مقابلة باحث أمريكى يقوم بعمل بحث عن مدى انتشار التكنولوجيا النووية فى الشرق الأوسط من خلال مقابلة خبير من كل بلد عربي، مبينا أنه عندما سأله عن سبب اختياره له قال إنه قرأ عنه فى كتاب هندى مهم حذر فيه الحكومة المصرية من اتجاه إسرائيل لإنشاء ترسانة من الأسلحة النووية. وبين عزت أنه تعجب كثيرا من الكيفية التى علم بها المؤرخ والباحث الإنجليزى ذو الأصل الهندى "شام باتيا" عن التقارير الرسمية والمذكرات السرية التى أرسلها إلى القاهرة محذرا فيها من البرنامج النووى الإسرائيلى قبل أن يخرج إلى النور، موضحا أنه سعى طويلا بحثا عن هذا الكتاب الذى حمل اسم "التنافس النووى فى الشرق الأوسط"، حتى أنه هاتف زوج ابنته الدكتور "فطين" الذى يعمل بالسفارة الأمريكية مسؤولا عن المعونة المقدمة لمصر، ليحضر له نسخة من الكتاب. وأكد الدكتور عزت عبد العزيز أنه فى الصفحة 65 من الكتاب الذى منعت واشنطن تداوله بعد صدوره، قال الباحث "شام باتيا" نصا: "فى عام 1959 وفى مركز أراجون للبحوث النووية بأمريكا لاحظ عالم شاب وجود اثنين من العلماء الإسرائيليين يعملان فى نفس مركز البحوث بأرجون ويجرون بحوثًا عن إعادة معالجة البلوتونيوم، وأمام انزعاجه لما رآه أخطر المسؤولين فى مصر بخطورة اهتمامات الإسرائيليين بتكنولوجيا البلوتونيوم (وقود القنابل الذرية).. هذا العالم المصرى هو دكتور/ عزت عبد العزيز الذى تم تعيينه فيما بعد رئيسا لمركز البحوث النووية بأنشاص". وفى الصفحة 66 من الكتاب كانت أغرب فقرة وتقول نصا: "كان دكتور عزت عبد العزيز عالم الذرة المصرى قد دعى بقرار الرئيس السادات لإنشاء الطاقة الذرية الليبية (لأسباب قومية) فى الفترة من عام 1971 حتى عام 1980، وخلال هذه السنوات التسع التى أمضاها فى ليبيا - طبقا لما نشرة كتاب "التنافس النووى فى الشرق الأوسط" الذى صدر فى إنجلترا فى الثمانينيات، كان الدكتور عزت عبد العزيز مستشار الرئيس القذافي، وساعده فى التفاوض لإبرام اتفاقيات تعاون نووى مع حكومة الاتحاد السوفيتى وفرنسا، كما أنه أسس مؤسسة الطاقة الذرية فى ليبيا بما فى ذلك مختبر متخصص للاندماج النووي". وأوضح الدكتور عبد العزيز أن الانغماس الإسرائيلى فى التكنولوجيا النووية بدأ مبكرًا مع بدء تأسيس الدولة عندما هاجر إلى فلسطين الكثير من العلماء اليهود الموهوبين فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، مشيرا إلى أن أبرزهم كان الدكتور "أرنست دافيد بيرجمان" الذى أصبح فيما بعد مديرًا لهيئة الطاقة الذرية فى إسرائيل ومؤسس الجهود الإسرائيلية فى السعى لتطوير أسلحة نووية، مؤكدا فى الوقت نفسه أنه كان صديقًا مقربًا لأول رئيس وزراء لإسرائيل "ديفيد بن غوريون" ومستشارًا علميًا له، ونبههم إلى أهمية الطاقة النووية فى التعويض عن الموارد القليلة والقوة العسكرية المحدود فى مواجهة بحر الأعداء من حول إسرائيل، مركزا على وجود طاقة نووية واحدة وليس اثنتين، بمعنى أن يكون إنتاج أسلحة نووية جزءا طبيعيا من مخطط إسرائيل لتوليد الطاقة النووية. وقال إن العلماء الإسرائيليين بدأوا فى التنقيب عن اليورانيوم فى صحراء النقب، بناء على أوامر صدرت لهم من وزارة الدفاع الإسرائيلية، وأنه بحلول عام 1950 كانوا قد عثروا على مخزون محدود قرب "بئر السبع" وعندها بدأوا العمل فى تطوير طريقة علمية لإنتاج الماء الثقيل بطاقة منخفضة، مشيرا إلى أن معهد "وايزمان" للعلوم عمل بنشاط على دعم البحوث النووية منذ عام 1949 تحت إشراف الدكتور "بيرجمان" الذى رأس قسم الكيمياء بالمعهد، وكان يخرج الكثير من البعثات من الطلبة الذين أظهروا نبوغًا وتميزًا لدراسة الهندسة النووية والفيزياء على نفقة الحكومة الإسرائيلية، حتى أسست إسرائيل وكالتها للطاقة النووية عام 1952.
من جانبه أكد الدكتور إبراهيم العسيرى كبير مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن طلاب العالم كانوا يذهبون فى بعثات علمية لمراكز الأبحاث الأمريكية مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وأنه كان من الطبيعى أن يتزامل الطلاب المصريون مع بعض الطلاب الإسرائيليين، مبينا أن دولة فرنسا هى التى ساهمت فى بناء مفاعل ديمونة فى إسرائيل، وأن المشكلة الحقيقية ما تقوم به الولاياتالمتحدةالأمريكية من غض البصر عن التسليح النووى الإسرائيلي، خوفا على المساعدات التى تقدمها إسرائيل. وقال العسيرى إن المجتمع الدولى متهم بازدواجية المعايير التى ساهمت فى تطور السلاح النووى الإسرائيلي، ففى الوقت الذى هاجمت فيه العراق وسوريا وإيران بحجة استخدامهم السلاح النووي، تغض البصر عن إسرائيل بل وتقدم لها المساعدات، مشيرا إلى أن الازدواج جعل مصر لا تملك سلاحا نوويا فى الوقت الذى تملك فيه إسرائيل من مئة إلى مائتي رأس نووية باعتراف الدراسات الأمريكية، كما تمتلك وسائل حمل تلك الرءوس من صواريخ وغواصات وطائرات. فى حين أكد الدكتور محمود بركات أنه فى بداية الخمسينيات توجه الطلاب المصريون إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وإلى فرنسا لكى يتعلموا العلم النووى الذى كان فى ذلك الوقت علما جديدا، وأنه فى ذلك الوقت زامل الطلاب المصريون الكثير من الطلاب الأجانب ومن بينهم طلاب إسرائيليون وهنود، موضحا أن المشكلة ليست هذه التدريبات التى حصل عليها طلاب إسرائيل، فأمريكا ساهمت كثيرا لكى تتحول إسرائيل إلى دولة نووية، فدعمت البرنامج النووى الذى قام بناؤه فى سرية مطلقة، حتى عن بعض الشخصيات الإسرائيلية، فكانت هناك علاقات بين الفنيين الإسرائيليين والعلماء الأمريكيين، وكانوا يحصلون على برامج تدريبية سواء بشكل مفتوح أو تحت غطاء كما حدث فى هذه الواقعة. وأضاف بركات أن أمريكا غضت الطرف عن تهريب شحنات من المواد النووية الانشطارية من أمريكا إلى إسرائيل، بالإضافة إلى أن الخطط النووية الأمريكية كانت تحت تصرف إسرائيل منذ الأربعينيات، سواء عن طريق التهريب أو بالشكل المباشر، موضحا أن أمريكا دعمت إسرائيل فى برنامجها النووى منذ البداية، وأن العلماء الأمريكيين يترددون على المعامل الإسرائيلية فى فلسطين بشكل دوري، وأن المجتمع الدولى خدع العالم العربى بمعاهدة عدم الانتشار، والتى وقع عليها العرب ولم توقع عليها إسرائيل، فأصبح من حق إسرائيل أن تطور برنامجها دون تدخل أحد، فى حين العالم العربى محاصر بالمعاهدة الدولية.