تدهورت العلاقات التركية الروسية بشكل غير متوقع ولم يعد الخلاف على مستوى القادة بل إنه انتشر في جميع طبقات المجتمع الروسي على وجه الخصوص. فالعداء لتركيا في روسيا ينتشر بسرعة في كل جوانب المجتمع من الفن حتى المدارس. وانطلقت حملة تشكيل وعي قد يستمر تأثيرها لسنوات عديدة. ويمكن القول إن العداء الروسي لتركيا لم يكن بهذا القدر من الانتشار والقوة حتى في فترة الحرب الباردة. فكثير من الخبراء الروس وصفوا حادثة إسقاط تركيا للطائرة الروسية بالصفعة على وجوهم أي أن القضية تحولت إلى قضية كرامة قومية. حسابات روسيا وقعت تركيا في صراع مع روسيا كان من المنتظر اندلاعه بين روسيا وأمريكا. وأصبح من الضروري للأطراف الاستعداد للضربات التي سيوجهها خصمه حتى لا يكون ضحية لضربات طائشة. وعلى الجانب الآخر استقرت روسيا داخل سوريا وتواصل استقرارها حتى أنها تؤسس قاعدة جوية جديدة أخرى في سوريا. أي أنه ينبغي على الذين يتساءلون قائلين: "ما شأن روسيا في سوريا" أن يدركوا أن لدينا جارة أخرى في الجنوب وهي روسيا. فروسيا تسعى إلى تحقيق تقارب دائم بينها وبين إيران وحزب الله. والعقبة هنا هى إسرائيل، لأن إسرائيل ستعارض تحالف إيرانوروسيا في حالة تضرر مصالحها وبوتين سياسي حكيم إلى درجة أنه لن يرغب في معارضة إسرائيل بطريقة مباشرة. أمّا العراق فهي النقطة الناقصة بين سورياوإيران. فبوتين يسعى إلى تشكيل تحالف دائم بين هذه الدول الثلاث بالاستفادة من تأثير إيرانوسوريا في العراق. وسيكون هذا التحالف في أول مراحله تحالف روسي شيعي. كما يرغب الروس أيضا في إضافة الأكراد إلى هذا الخط لكن الرقابة عليهم كبيرة فالأمريكان لا ينوون التنازل عن خططهم المتعلقة بالأكراد لصالح أي أحد. فبينما ينشط الروس حاليا في الجنوب فإن الأمريكيين ينشطون في الشمال. لكن على ما يبدو أنه عما قريب لن يكون هناك مفر من الصراع الروسي الأمريكي. ومن الممكن للأطراف أن تتوصل إلى تقاسم النفوذ دون خوض مواجهة كهذه. وأكثر ما يقلق في هذا المشهد هو أن يلجأ الروس إلى استخدام بطاقة الأكراد داخل تركيا. وكما هو معلوم للجميع فإن روسيا لا ترى العمال الكردستاني تنظيما إرهابيا ولم تصفه بهذا منذ البداية. وبالتالي فإن الدعم الذي ستقدمه إلى العمال الكردستاني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من شأنه أن ينقل الصراع بين تركياوروسيا إلى مستوى غير مرغوب فيه. هل يمكن لغاز أذربيجان أن يعوض الغاز الروسي؟ كما قلنا مسبقا فإن العلاقات بين روسياوتركيا تقترب خطوة بخطوة إلى مرحلة الانهيار.ولا يمكننا الجزم بما إذا كانت روسيا بهذه الطريقة تلعب لعبة أم أنها ستمضي حتى النهاية. ولكنها إن مضت على هذا النحو فإن الضرر سيكون كبيرا ودائما. فأكبر ثلاثة أسواق تجارية لتركيا هي الاتحاد الأوروبي ثم الشرق الأوسط ثم روسيا. ولدينا خسائر كبيرة في أحد هذه الأسواق وهو سوق الشرق الأوسط. والآن السوق التركي في روسيا يعاني من مشاكل وإن استمر الحال على هذا المنوال فقد تلجأ روسيا إلى استهداف مصالح تركيا في آسيا الوسطى ودول القوقاز. أما ما يتعلق بالتوصل إلى اتفاقية مع قطروأذربيجان لتفادي قطع روسيا لإمدادها من الغاز إلى تركيا فهذا يعكس شيئا من الارتجال وعدم الإعداد المسبق. فليست هناك سعة تخزينية إضافية للغاز الذي سيتم استيراده من دولة أخرى غير روسيا، كما ليس هناك أي احتياط أو تدبير متخذ بناء على "تدهور محتمل للأوضاع بيننا وبين الروس". وهذا الأسلوب صار شبه معتاد لتركيا في اتخاذ تدابير احتياطية في اللحظة الأخيرة. وقطر لن تعوض الغاز الروسي بسهولة خصوصا أن هذا الأمر صعب تحقيقه في المدى القصير والمتوسط. تعد أذربيجان أهم بديل لروسيا بالنسبة لتركيا. فهم يبدون رغبة في هذا الموضوع. حتى أنهم أومأوا مؤخرا أنهم سيتساهلون في سعر الغاز. لكن المشكلة هناك أن بعض الاستثمارات ستستغرق بعض الوقت. وعلى الأقل فإن ثاني أهم مشكلة في هذا الأمر هو احتمالية فرض روسيا عقوبات على أذربيجان هي الأخرى.ولا أعتقد أن التقارب الذي شهده الأسبوع الماضي بين أنقرة وباكو نال استحسان بوتين. لذا فإن ما يقلق في هذا الإطار هو وقوع أية كارثة مفاجئة قد تشهدها أذربيجان أو احتمالية حدوث اغتيالات مريبة. روسيا تدفع تركيا باتجاه الولاياتالمتحدة كانت مواقع جوزيف ستالين العدائية تجاه تركيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية قد دفعت تركيا باتجاه الولاياتالمتحدة ثم حلف الناتو في النهاية. وعانت تركيا كثيرا حتى تمكنت من الحصول على مكان لها في التكتل الغربي وكان ستالين هو سبب كل هذا. وعلى الرغم من اختلاف الأسباب فإن بوتين مثلما فعل ستالين يدفع دولة مهمة كتركيا إلى أحضان الغرب. فتركيا تتساهل بشأن مطالب الولاياتالمتحدة وأوروبا حتى لا تظل وحيدة إلى أن فتحت في النهاية أبواب قاعدة إنجيرليك والقواعد العسكرية في دياربكر في وجه الغرب. أما الأمريكان والألمان والفرنسيون فهم يتابعون الموقف ولم يعد الأمر مقتصرا على سورياوالعراق فقط بل تحولت تركيا أيضا إلى ساحة حرب. وقد يسعد هذا الوضع من يرغب أن تكتسب تركيا مكانة أكبر في النظام الأمني الغربي لكن بوتين يمكنه تقليل قدرة تركيا على التفاوض كلما شعر بالضيق. أي أن علاقات تركيا مع الولاياتالمتحدة أيضا وليس مع روسيا وحدها قد تصل إلى وضع مضطرب.