جدل كبير دار وما زال يدور حول الانتخابات النيابية العراقية التي أقيمت مؤخراً، وبدا المسرح العراقي قبلها وكأنه حلبة سباق وساحة صراع، هدف المتنافسين فيها مقاعد مجلس النواب، كلٌ يتحرك حسب أهدافه ودوافعه ومآربه الفئوية أو الحزبية أو المذهبية أو القومية أو الوطنية أو الإسلامية التي تحدو به للوصول إلى تلك المقاعد التي سوف يرسم الجالسون عليها مستقبل العراق للعقود القادمة، بين صاحب أجندة وطنية خالصة وصاحب أجندة تمثل أهداف ومصالح دول إقليمية وأخرى دولية. وانطلاقاً من هذه الرؤى المتباينة تشكلت ألوان الطيف السياسي العراقي فارضةً أنماطاً من التحالفات تتباين هي الأخرى لترسم صورة مختلفة، متدرجة بين تحالفات قذرة باع فيها الكثير ما كانوا يدّعونه من مبادئ ومُثل، وبين تحالفات تمثل النخبة الوطنية الصادقة، وتحالفات تجعل من قاعدة الاضطهاد الطائفي أو القومي الأساس فيها، ووسط هذا الجدل الدائر انقسمت قوائم على نفسها وأفرزت الأحداث تكتلات جديدة وتجمعات وليدة كان من المؤمل لها أن ترسم صورة جديدة لطبيعة الحياة السياسية، ولكن الواقع أعطى صورة مغايرة عن الخارطة المتوقعة للمجلس النيابي القادم، ووسط هذه الصورة غير المتوقعة لشكل الخارطة السياسية العراقية أود أن أضع بعض الملاحظات والتحليلات التي ربما تعين على فهم بعضاً من المشهد العراقي. * وهم المؤامرة والدور الأميركي: نظرية المؤامرة وهم كبير ابتليت به الأمة على مر العقود، ومن كثرة طرح هذه الفكرة وتصوير أن واقع الأمة ومستقبلها يُرسم ويدار من خلال لوحة أزرار يضغط عليها ساسة البيت الأسود الأميركي، فيعينون هذا الرئيس أو الملك أو الحاكم من مكانه ويجلسون الآخر مكانه، ويفسحون المجال لتلك الدولة لتنهض ويأمرون أخرى كي تسلك طريق التخلف والضياع، من هذه النظرة اعتقد البعض عندما صوّر أميركا كأنها المدبر المتفرد في شؤون العالم رافعاً إياها إلى درجة الربوبية والألوهية، متناسياً حقائق التاريخ وطبيعة الواقع المعاصر، مثبطاً بذلك الهمم انطلاقاً من فرضية أن أميركا بيدها القرار، ولاشك من أنها سترفع السائرين في ركابها لتوصلهم إلى سدة الحكم ومراكز القرار، وسيبقى المعارضون مهمشين مغيبين معزولين عن دوائر التأثير مسدودة دونهم أبواب السلطة. * الانتخابات والإستراتيجية الأميركية في العراق: انطلاقاً مما ذكرت كان من المتوقع للذين يؤمنون بنظرية المؤامرة أن تعمل أميركا على الدعم والسعي لإيصال من يُعتقد أنهم سيمثلون الخيار الأميركي لحكم العراق، ومعظم الترجيحات كان تشير إلى إسناد رئيس الوزراء السابق إياد علاوي وقائمته، باعتبار أن رجالاتها يمثلون الخط العلماني الليبرالي، وهذا ما حدى بالكثيرين إلى التشكيك بجدوى العملية السياسية انطلاقاً من هذه الرؤية والتصور. واعتقد آخرون أن أميركا سوف تقف في وجه أي نفوذ واسع لقائمة الائتلاف الشيعي معللاً وصول هذه القائمة للحكم في المرة السابقة بأن أميركا أرادت أن تسمح لها الوصول وتمنع وصول علاوي وقائمته لأمور ثلاث: 1. أن تلك الفترة كانت قصيرة وانتقالية، وبالتالي كان من غير المفيد أن يصل علاوي لها، متحسبين للإخفاق الذي قد يشهده أداء الحكومة مما يدفع الناخب إلى عدم تجديد انتخاب قائمة علاوي. 2. أرادت الإدارة الأميركية أن تحرق ورقة الائتلاف الشيعي الموحد من خلال السماح له للحكم لفترة قصيرة يعجز فيها من الوصول للأداء المقبول لدى الشارع العراقي، وبالتالي فإن الناخب العراقي سوف يحجم عن إعادة انتخاب قائمة الائتلاف الشيعي، مما يفسح المجال لعلاوي وقائمته من أن تأخذ طريقها بيسر نحو مقاعد المجلس النيابي القادم. 3. أن تمكين الائتلاف الشيعي من الوصول للحكم وإطلاق يده للانتقام من السنة سوف يجعل من الناخب السني يقبل بعلاوي كبديل، أو على الأقل استساغة القوائم السنية التي ستفوز من القبول بفكرة التحالف مع علاوي، وهو ذات الشخص الذي عاث فساداً في المناطق السنية يوم أن كان رئيساً للوزراء، خصوصاً حين هاجم الفلوجة وسامراء والموصل واللطيفية وغيرها. * ماذا تريد أميركا إذن؟ سؤال يطرح نفسه: من وماذا تريد أميركا إذن؟ من المرجح أن أميركا تجاوزت مرحلة فرض الخيار الأميركي المباشر على الشعوب وأن إستراتيجيتها الجديدة في العراق -أو ربما في المحيط العربي والعالم- تقوم على أساس أن تسمح للقوى الفاعلة من التنافس والصراع فيما بينها، ولكل قوة أن تسلك أي طريق شاءت للوصل إلى سدة الحكم، بالديمقراطية أو بالإرهاب الفكري والمادي، بالنزاهة أو التزوير، وبالتالي فإن الواقع السياسي سوف يمكن أشخاصاً وتكتلات وقوائم من الوصول إلى قمة الهرم القيادي وإلى مجلس النواب، وبالتالي فإن أميركا سوف تتعامل مع الرابح في هذا الصراع المحموم، وسوف تغير من أجندتها وتعدل فيها لتوظفها ضمن توازنات تسمح لها من الاستفادة في استمرار مشروعها وتحقيق مفردات الأجندة التي تراها، وبالتالي فإن أميركا لا تملك إستراتيجية واضحة المعالم، بل هي الأخرى تتخبط في وحل الهزيمة التي تكابر من أن تعلنها في العراق على يد المقاومة العراقية، وهي أعجز من أن ترسم صورة العراق كما تريد، ولكن مع ذلك فإنه لابد لها من دور، ولكن ليس بهذا الحجم الذي يتصوره البعض ويتحجج به ويجعل منه واقعاً للركون والانسحاب من الحياة السياسية، أو أن يعيش تحت ضغط نظرية المؤامرة. * الفائزون وتوازن العرب الإقليمي لسائل أن يسأل: كيف سمحت أميركا للائتلاف الشيعي الموحد من الوصول إلى سدة الحكم ومن الحصول على هذه المقاعد الكثيرة بغض النظر عن كونها تمثل الأرقام الحقيقية أم المزورة؟ وكيف لها أن تقف مكتوفة اليدين أمام هذا النفوذ للائتلاف الذي تربطه علاقات واسعة بإيران، وهي من تعتبرها عدوها الأول في المنطقة الشرق أوسطية؟! لو سلّمنا أن هنالك خلافاً حقيقياً بين الإدارة الأميركية وإيران -الحليف القوي للائتلاف والذي يمثل بعدها الإقليمي في المنطقة- فإن هناك بعداً آخر ربما يغيب عن أذهان البعض، وهو أن صعود الائتلاف لسدة الحكم يتماشى أيضاً مع المشروع الأميركي في المنطقة ولا يمثل خطراً حقيقياً عليها ما دامت إيران ضمن السيطرة وخاضعة لسياسة الاحتواء التي تحاول أميركا أن تواجه بها طهران، ولتوضيح الصورة، فإن لأميركا على الأقل ثلاث مكاسب يوفرها لها وصول الائتلاف الموسع للمجلس النيابي: 1. تمكين إسرائيل في المنطقة وفك عزلتها الإقليمية ربما يستغرب البعض من هذا الكلام ويقول: كيف لوصول إيران على الحدود الأردنية من خلال تمكين الائتلاف الشيعي والممثل للمشروع الصفوي في المنطقة، أن يفك عزلة إسرائيل الإقليمية؟ الجواب ينبئنا به الواقع، فالمراقب للأحداث سوف يلحظ تطوراً نوعياً شهدته المنطقة متمثلاً بزيارة وفد عسكري إسرائيلي لتركيا ليعقد اجتماعاً مع القيادة العسكرية التركية بحضور أحمد نجدت سيزار الرئيس التركي، وحدث هذا اللقاء الذي جاء بعد علاقات شبه منقطعة أو فاترة جداً بين تركيا وإسرائيل تماماً بعد الانتخابات النيابية العراقية، وإعلان النتائج الأولية لها والتي أشارت إلى تقدم الائتلاف الشيعي، وأن المبررات لذلك الاجتماع كما أوردها المغيبون والمحللون تشير إلى إعادة بناء تحالف قوي بين تركيا وإسرائيل لمواجهة التوسع الإيراني المرتقب في المنطقة، ولإقامة جبهة مشتركة لمواجهة ذلك التوسع والذي يشكل وصول الائتلاف الشيعي عاملاً مهماً فيه، وبالتالي فإن الوصول الصفوي للحكم في العراق سيكون عاملاً مهماً لإسرائيل لجهة إعادة ترتيب أوراقها في المنطقة برمتها، والذي ربما يصل إلى حد فتح قنوات مباشرة للتعامل والتحالف حتى مع دول عربية ترى هي الأخرى في التوسع الإيراني خطراً عليها. 2. توسيع النفوذ الأميركي والغربي في الخليج العربي ربما تعتبر الدول الخليجية من أكثر الأطراف المرعوبة من التوسع الإيراني في المنطقة، والتقدم في مشروع ملالي إيران، والذي يمثل وصول الائتلاف للحكم تطوراً نوعياً فيه باعتباره امتداداً للثورة الإيرانية وتصدير أفكارها، وبالتالي فإن هذا الخوف الخليجي ألجأ دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة النظر في قوتها العسكرية وإعادة تقييمها للإمكانيات الحقيقية لقوتها العسكرية المشتركة والمسماة بدرع الجزيرة، وإصدارها التوصيات بإعادة هيكلته بصورة جديدة، وربما دعاها الموقف لبناء تحالف عسكري مع حلف شمال الأطلسي وللقوات الأميركية، وبالتالي فإن هذا سوف يجعل من بقاء القواعد الأميركية في المنطقة أمراً حتمياً تلجأ له دول الخليج لتوفير الحماية لنفسها في مواجهة التحدي الإيراني القادم من الشرق، وعليه فإن وصول الائتلاف الشيعي لحكم العراق يمثل ضمانة لبقاء الأمريكان في المنطقة من خلال تحقيق توازن الرعب الإقليمي من خلال المتغيرات الجديدة على الساحة العراقية والتوسع الإيراني فيها، لذا فإن للخيار الشيعي لدى أميركا ما يسوغه ويدفع بها للتعامل معه بشكل إيجابي. 3. النصر الأميركي وحفظ ماء الوجه إن وصول الائتلاف الشيعي للحكم سيجعل أميركا ضمانة -أو عامل مساعد آخر- للقضاء على المقاومة الوطنية العراقية التي قضت مضاجع الأمريكان من خلال حرب الاستنزاف التي تشهدها الساحة السنية ضدهم، والتي باتت مصدر أرق للاحتلال وأسقط هيبة أميركا من عيون العالم، خاصة بعد ارتفاع نسبة الخسائر الأميركية في العراق، وعليه فإن وصول الائتلاف الشيعي الرافض للمقاومة والمعارض لها بقوة، والذي لم يدخر جهداً للقضاء عليها ومحاولة إسقاطها مادياً وإعلامياً في نظر الشارع العراقي والعربي والعالمي، سوف يفتح الباب واسعاً مرة أخرى لتحالف عسكري بين القوات الحكومية وقوات الاحتلال الأميركية، وربما تدخل الميليشيات المسلحة للقوى الشيعية عاملاً جديداً بصورة أكثر وضوحاً. وخاتمة القول.. فإنه ليس من المستغرب أن يأتي الكشف عن النتائج الأولية للانتخابات والتي أعلنت بعد أربعة أيام من الزيارة المفاجئة لنائب الرئيس الأميركي تشيني، وبأرقام تمثل تزويراً وتزييفاً للحقائق، وليس غريباً الموقف المتصلب للائتلاف الشيعي بعد زيارة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، والتي تسربت أخبار عديدة بشأنها، أشارت إلى سباق محموم بين عادل عبد المهدي وإبراهيم الجعفري، أعطى فيها الاثنان تنازلات وصلت إلى حد الوعد بإقامة علاقات مع إسرائيل، وإلى عدم المطالبة بانسحاب القوات الأميركية من العراق لأربعة سنوات قادمة، وإطلاق يد الميليشيات الشيعية المسلحة في المنطقة الغربية السنية لحل ملفها الأمني الشائك، والذي يمثل مصدر قلق لقوات الاحتلال الأميركية. وعليه، فإن وصول الائتلاف الشيعي لا يمثل عامل خطر بالنسبة لأميركا، بل يمكن استيعابه وتوظيفه لخدمة المصالح الغربية في المنطقة، وربما لو كان الفائز غير الائتلاف لكان ذلك مدعاة لأميركا من أن ترتب أوراقها بصورة مغايرة بعيداً عن وهم نظرية المؤامرة. المصدر : العصر