كنت قد آيست من الكتابة عن ملفات الفساد ، في ظل صمت غير مفهوم من الحكومة على ما نعرضه من ملفات ، و كأن عمليات الفساد تدور تحت سمع و نظر و مباركة الحكومة ، فما الفائدة من تضييع الوقت في التجوال بين شكاوى العمال ، و الترحال الى كل الأماكن الممكنة لسماع إفاداتهم ، ثم عمل أبحاث عن الملفات، تنتهي بكتابة مقال هو أقرب الى التحدث الى النفس من انتظار أي رد فعل مناسب . الا أن خبر سحب الحكومة جزء من مشروع شرق التفريعة من ميرسك ووضع يدها عليه، ثم اسناد تشغيله بالأمر المباشر الى موانئ سنغافورة ( التي تعتبر من أعرق الشركات في إدارة الموانئ ) ، أيقظ الأمل بداخلي ، و أثار حماستي من جديد ،على الرغم أن المساحة التي بسطت الحكومة يدها عليها ليست بالشيء الذي يذكر ، حيث تسيطر ميسرك طبقا لاتفاقية حق انتقاع مسبق على حوالي 4800 كم طولي ، في حين بسطت الحكومة يدها على 500 م طولي فقط ، الا ان تغيير بنود حق انتفاع مجحف ، يظل تغييرا مشكورا و مطلوبا، و محاولة لتغيير واقع غريب، فرض علينا بشكل أو بآخر في زمن زكم فساده الأنوف ،فهل تغير الزمن الآن عما عهدنا عليه فترة حكم مبارك ؟
ما تعرض له الاقتصاد المصري في عهد المخلوع ، يُجرى استنساخه على قدم و ساق الآن أيضا ، و يبدو أن هناك " قالب " محدد أو "كتيب غير مكتوب" يملي على الفاعل اجراءات و خطوات السيطرة على عمالقة الشركات الحكومية .
حيث وجدت بالبحث و التنقيب ، أن طريقة الاستيلاء على الشركة المصرية للملاحة ، هي نفسها المتبعة الآن في الاستيلاء على المصرية لتجارة الأدوية و شركة اسمنت طره .
فالبداية تكون متعلقة دائما بملفات فساد يتم ابرازها للنيل من سمعة الشركة ، ثم محاولات متعمدة لإدخالها في دوامة الخسارة المادية رغم تحقيقها الأرباح ، ثم خصخصتها و عرضها للقطاع الخاص للبيع، و الاستيلاء على مقراتها و أصولاها ، و التي غالبا ما تقع على أراضي تقدر بالمليارات من الجنيهات .
و لقد ذكرت في سلسلة مقالاتي ، ما حدث للمصرية للملاحة و المصرية لتجارة الأدوية ، و حان الأوان الآن للتحدث عما يحدث لشركة اسمنت طره .
و شركة أسمنت بورتلاند طره هي شركة الأسمنت الأولى في مصر، وتمتلك شركة السويس للأسمنت ( التي تمتلكها شركة ايتالي سيمنتي الايطالية) حوالي 66.12% من الشركة نظير مبلغ 988 مليون جنيه فقط ، و تمتلك الحكومة النسبة الباقية منه ، بعد تفعيل قانون الخصخصة عليها ، و في يونيو 2006، حصلت الشركة على شهادة الجودة من المعهد الأمريكي للبترول (API) لإنتاج أسمنت آبار البترول.
كانت " الأهرامات " هي شعار الشركة قبل الخصخصة، و يعود السر في ذلك ، الى امتلاكها لأقدم محجر للحجر الجيري، والذي تم استخدامه في إنتاج أحجار الأهرامات الثلاث ، الا أن الشركة الايطالية غيرت الشعار الى تصميم آخر غير مفهوم ، عابثة بالقيمة التاريخية له !
و لم يكتف عبثها في شعار الشركة فقط ، بل تعداه إلى العبث بالشركة نفسها و تعريضها إلى أزمات مالية مفتعلة ، استغلالا لثغرة في قانون الاستثمار مفادها ، أنه اذا خسرت الشركة لمدة ثلاث سنوات علي التوالي يحق للمالك تغيير النشاط ، و يمكنك أن تفهم الغرض عزيزي القارئ اذا فهمت أن هذا المصنع يتميز بموقع ممتاز يمتد من كورنيش النيل الي الأتوستراد و يقدر بمليارات الجنيهات .
كما أن اسمنت طره تمتلك الحكومة منه ما نسبته حوالي 35 % من أرباح الشركة ، عكس شركتي الاسمنت الأخريين ، أسيك للإسمنت و السويس للإسمنت والتي تمتلكهم كليا ، و بإغلاقه للشركة يعطي فرصة للشركات الاخرى للمكسب لأن نسبته هناك مائة في المئة .
أما عن وسائل التخريب الممنهج للشركة ، فحدث و لا حرج !
- خسائر على الدفاتر :
كما حدث عندما أودع بون صرف بضائع من المخزن بقيمة 27 مليون جنيه، دخلت ضمن المصروفات، ولكنها بقيت بداخل المصنع كأمانات، وبهذا الشكل تكون الإدارة قد حققت هدفها في تخسير الشركة هذا المبلغ، على أن تبيع هذه المنتجات كلوطات في وقت آخر.
و صرف مبالغ 120 ألف دولار سنويا على إقامة الأجانب ، و اعطاؤهم معونة بلغت قيمتها 225 مليون دولار في سنة 2014 فقط !
- تعطيل تشغيل المصنع
حيث قامت إدارة الشركة بإيقاف عدد 8 طواحين أسمنت بطاقة إنتاجية 1.8 مليون طن سنويًا، وإيقاف مصنع الأكياس بطاقة إنتاجية 60 مليون شكارة سنويًا ، وإيقاف تشغيل فرن 7، والذي كان يعمل بطاقة إنتاجية قدرها 600 ألف طن سنويًا، وإيقاف فرن 5 بطاقة إنتاجية قدرها 150 ألف طن سنويًا
وسحب إنتاج عدد من أنواع الاسمنت كانت تحتكر إنتاجه؛ باعتبارها شركة تابعة للدولة، وإسناده إلى الشركات الخاصة .
ثم قرار وزير البيئة بإغلاق مصنع " طره 1 " بسبب عدم مطابقته للمواصفات البيئية ، عوضا عن إيقافه حتى تصحيح الأوضاع ، ووقف استخراج الحجر الجيري ( المكون الأساسي لصناعة الاسمنت ) بقرار من القوات المسلحة .
- تخريب المصنع
حيث تم إيقاف الفرن الوحيد رقم " 8 " بطريقة مفاجأة ، بعيدا عن إجراءات السلامة ، مما حدا بالعمال و المهندسين إلى تشغيله بالديزل و المواتير يدويا ، حتى يطبقوا نظام الاغلاق الصحيح ، بسبب أن عدم تطبيق بروتوكول الإغلاق يؤدي لتدمير بطانة الفرن الحراري .
و الواجب ذكره ، أن عمال شركة اسمنت طره ، يحاولون إلى الآن التصدي لمحاولات التخريب المتعمدة لحصن من حصون الانتاج في مصر ، و في ذلك قاموا بالعديد من الاعتصامات و الاضرابات ، و حتى أنهم دخلوا في اضراب عن الطعام للضغط على الشركة الايطالية التي تتولى بالمناسبة تسيير الأعمال لصالح شركة ألمانية ، بدون أن يلقى ما يفعلونه أي صدى لدى الحكومة أو المسئولين !
و دائما ما تأتيني الشكاوى من العمال ، الذين أرى أنهم دائما حائط الصد لأي محاولات عبثية من الكبار في اللعب بأصول مصر ، كأدب كل قطاعات الأعمال الحكومية، يبذلون في ذلك كل ما استطاعوا ،من صحتهم و راحة بالهم و حتى أموالهم ، ليبقوا تلك الصروح العملاقة بعيدة عن أي أذى ، فهل تعادل قوة الحق و العدل قوى الظلام و الشر ؟