كان الحماس محدودا للإعلان الرسمي المصري الروسي عن اتفاقية إنشاء المفاعل النووي السلمي في منطقة الضبعة في الساحل الشمالي الغربي بغرض توليد الطاقة الكهربائية ، ولهذا الفتور أسبابه بطبيعة الحال ، في مقدمتها الغموض الذي أحاط بهذه الاتفاقية ، فلا توجد جهة رسمية قدمت للشعب أي معلومات عن الخطوط الأساسية لهذا المشروع وخاصة التكلفة المالية التي سيتحملها الشعب المصري لثلاثين عاما مقبلة ويدفعها من "لحم الحي" كما يقولون ، والتي قدرت بحوالي عشرين مليار دولار ، وهو مبلغ ضخم جدا خاصة النسبة لبلاد تعاني تدهورا غير مسبوق في قدراتها الاقتصادية واحتياطيها النقدي من العملة الصعبة وتعيش على المعونات حاليا تقريبا ، أيضا لا أحد يعرف : هل كانت هناك عروض دولية أخرى لإنشاء المفاعل بأسعار أقل وجودة أفضل أم لا ، لا أحد يعرف شيئا عن ذلك ، كما أن الأخطاء الفنية والأمنية والعلمية والإدارية الفادحة التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة وتسببت في كوارث تجعل ملايين المواطنين يضعون أياديهم على قلوبهم من وجود مفاعل نووي بجوارهم ، لأن الخطأ هنا بكارثة تاريخية وملايين الأرواح ودمار بيئي تتوارثه عدة أجيال بالسرطانات وغيرها ، والناس تساءلت : إذا كنت عاجزا عن تسليك بلاعات مجاري الاسكندرية هل نطمئن لك في حماية وإدارة وتأمين مفاعل نووي ؟! . الاتفاق الذي جرى التوقيع عليه كان اتفاقا إطاريا وماليا ، خطوط عريضة ، وتم ترحيل التفاصيل لمراحل مقبلة ، ربما لا تأتي ، حسب اتجاه الريح السياسي ، وكان الرئيس المخلوع حسني مبارك قد وقع مع الروس اتفاقية إطارية مشابهة لتلك التي وقعها الرئيس السيسي ، ولكن للأمانة كانت اتفاقية مبارك أفضل ماليا ، لأن تكلفتها كانت أقل من مليار جنيه مصري بحسابات عام 2009 ، (تسعمائة مليون جنيه مصري)، أي ما يقارب مائتي مليون دولار أمريكي فقط لا غير ، وهو ما يطرح التساؤل عن هذا الفارق الضخم بين اتفاق مبارك واتفاق السيسي ، وقد وقع الاتفاقية عن الجانب المصري وقتها الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء في 19 يونيه 2009 وقد نشرت الصحف القومية تفاصيلها في اليوم التالي ، ولا يعرف أحد أين ذهب هذا العقد الآن ، وهل تم إلغاؤه من جانب واحد ، وهل هناك بنود عقابية على إلغائه أم لا ، وكان من المفترض أن يبدأ تشغيل المفاعل الأول في 2019 ، أي بعد ثلاث سنوات تقريبا من الآن . الاتفاق الإطاري لا يبين تفاصيل العقود العملية ، وهي حزمة العقود المتعلقة بتحديد مسئوليات الطرفين فى مجال إنشاء المحطات النووية وتوريد الوقود وتشغيل وصيانة المحطات النووية، وكذا معالجة الوقود النووى المستنفذ وهذه تحديدا مسألة بالغة الخطورة وفى مجال التدريب وتحسين نظام اللوائح والأكواد والبنية التحتية فى مجال توليد الكهرباء بالطاقة النووية. أيضا ، كان ملاحظا أن توقيع هذه الاتفاقية جرى بصورة مفاجئة ، وفي أجواء توتر العلاقات بين مصر وروسيا في أعقاب سقوط الطائرة الروسية في سيناء ومقتل أكثر من مائتين من ركابها ، جميعهم من الروس ، ورفض مصر الاعتراف بالرواية الروسية بأن الطائرة أسقطت بعمل إرهابي ناتج عن اختراق أمني بمطار شرم الشيخ ، وإجراءات روسية عقابية ضد مصر وصلت إلى حد منع طائرات مصر للطيران من السفر إلى المطارات الروسية ، ومقاطعة السياحة في مصر بالكامل ، وتلويح روسيا باستخدام المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة لملاحقة المتورطين في الجريمة أينما كانوا ، وهو ما يعني استباحة السيادة المصرية في سيناء تحديدا ، ثم ما جرى بعدها من اتصالات بين بوتين والسيسي ، وتعهد فيها الأخير بالتعاون الأمني "الوثيق" مع روسيا في ملاحقة الإرهاب وكشف ملابسات تلك الحادثة . هل الإعلان عن توقيع اتفاق إطاري للمفاعل النووي هو فصل جديد من "المشاريع القومية العملاقة" التي نعلن عنها كل شهر تقريبا ولا ينفذ منها شيء ، وما نفذ منه "تفريعة قناة السويس" ثبت أنه كان ضجيجا بلا معنى ولا عائد ، أم أنها طمأنة للجانب الروسي على استعداد مصر للتعاون الاستراتيجي وحماية "حصة" موسكو في المشروعات الكبرى التي تنوي مصر إنجازها مستقبلا ، من الصعب الإجابة على التساؤلات في تلك المرحلة ، لأن الغموض هو شعارها ومناخها ، والزمن وحده مع الأسف هو الذي سيكشف لنا الحقائق كاملة .