هذا الفيل الذى قيدوا قدمه إلى سلسلة لا يتجاوز طولها الثلاثة أمتار، فأخذ فى البداية يحاول أن ينطلق بعيدًا، فتشده السلسلة حتى تؤلم قدميه فيضطر للرجوع ثانية إلى دائرته، وأخذ الفيل يكرر المحاولة مرات ومرات ولكن نفس الألم يتكرر فلا يملك إلا أن يرجع كل مرة. وبعد الكثير من المحاولات علم الفيل أن الخروج من هذه الدائرة مستحيل، وكل المحاولات لا جدوى منها إلا أنها ستسبب له آلامًا مبرحة، وبعد أشهر بدا أن نيسلون قد أنس إلى المكان وأصبح أكثر هدوءًا ففك عنه حراسه السلسلة، تاركين له الفرصة ليتحرك بحرية، لكن العجيب أنه ظل ملتزمًا بالحركة فى نفس الدائرة التى اعتادها ولم يحاول حتى أن يتجاوز تلك الدائرة الوهمية التى حدودها له مسبقًا، واستمرت حياة نيلسون وهو محبوس فى تلك الدائرة التى لم يعد لها وجود أصلا، قصة قرأتها فى أكثر من مصدر لها ورأيت لها ظلالا فى غاية العمق، ودلالات لا ينبغى أن تفوت. صدقونى إن قلت، إننا نشبه هذا الفيل المسكين كثيرا، ونعيش فى سجن كبير من ظنوننا لا يقيدنا سوى مخاوفنا وأوهامنا ونحن لا ندرى. إننا محبوسون فى قفص وهمى اشترك فى صنعه لنا، تعليم لا علاقة له بحياتنا يجعل كل همك الحصول على الدرجات التى توفر أسهل وظيفة تجلب لك أسهل لقمة عيش، وإعلام ردىء يتاجر بهمومنا ويلعب على أوتار غرائزنا ويخرج عقولا مخدرة وأرواحًا منطفئة واهتمامات فردية أنانية، وثقافة عقيمة بثوها من خلال أبواقهم المختلفة فى المدارس والمساجد مفادها أنه لا أمل منا مطلقًا، وأننا مختلفون عن كل شعوب الأرض، ولو ثار أبو الهول نفسه فلن يثور الشعب المصرى، وأننا شعب صبور قابل بفطرته للاستعمار بل ونذوب عشقًا فى عيون كل محتل لأرضنا حتى أرسل الله لمصر جيلا جديدا، جيلا كنا نسمه بالكسل والاستهتار واللامبالاة،وتعجل الوصول لأهدافه وعشق المظهرية وإيثار اللعب حتى فى وقت الجد. ربما كنا وقتها نخلع على هذا الجيل كل عيوبنا التى درجنا عليها ونحن لا ندرى، لنلتفت الناحية الأخرى ونطبطب على أنفسنا نحن الجيل المظلوم المكافح الذى لم يأخذ حقه فى الحياة كما ينبغى، لنسلم أمام محكمة الضمير القاسية من السؤال: ماذا قدمنا نحن؟! إن كان كما يقولون إنه جيل لم يتعود السماع وخاصة لكلام الكبار، فحسنا فعل هذا الجيل، حتى يخرج من عباءتنا البالية ويرفض إرث عقولنا الكليلة، وأفكارنا التى شاخت وتأخرت كثيرًا عن قطار الحياة، وهمومنا التى انحصرت فى ذواتنا ومصالحنا الشخصية البحتة. حسنا فعل هذا الجيل، حينما خرج من عباءتنا ورفض الرضوخ لتلك السلاسل الوهمية كما رضخ نيلسون ورضخنا، وحسنا فعل هذا الجيل حينما آمنوا بأنفسهم وبقدرتهم على النجاح والتغيير حينما لم نؤمن نحن، وحسنا فعل هذا الجيل حينما حلموا وتهوروا وطاشوا وتجاوزت أحلامهم حدودنا الضيقة حينما تعقلنا نحن، وحسنًا فعلوا حينما لم يستمعوا لكلماتنا الشائخة التى كنا نسميها ظلما وجهلا حكمة وواقعية. عودوا بالذاكرة ليوم 25 يناير وانظروا من الذى كسر حاجز الخوف وملأ ميدان التحرير، وحرر المصريين من قيود الخوف فنزلوا. [email protected]