سهر ملايين العرب من المحيط إلى الخليج أمس مع شاشات التليفزيون ومواقع الصحف ووكالات الأنباء التركية بنسختها العربية ، لمتابعة نتائج الانتخابات البرلمانية التركية لحظة بلحظة ، كنت تستشعر أن هذه الانتخابات تجرى في القاهرة أو الرياض أو تونس أو الرباط أو الكويت أو أبو ظبي أو صنعاء ، بنفس القدر الذي تجري فيه في أنقره واسطنبول وبقية مدن تركيا ، وهذا ما يكشف عن أن الانتخابات التركية والموقف منها هي امتداد للفرز الذي أحدثه ربيع الديمقراطية في العالم العربي ، فالغالبية العظمى من أبناء الربيع الديمقراطي العربي كانوا مؤيدين لحزب العدالة والتنمية التركي الذي انحاز إلى الربيع العربي في مختلف بلدانه ، بينما كان خصوم الربيع العربي بالإجماع ضد حزب "اردوغان" ويتمنون فشله وسقوطه في الانتخابات باعتباره كسرا نهائيا لإمكانية تجدد روح الربيع العربي ، وبعضهم بشر بذلك قبل إعلان النتائج ، وبعضهم حذر منه بعد ظهور النتائج ، والملاحظ أن الفرحة الطاغية بانتصار "حزب العدالة والتنمية" ونجاح الانتخابات المبهر كانت أشبه بانفجار عواطف مكبوتة في العواصم العربية ، وكذلك كانت حالة الحزن لدى العرب المخاصمين لربيع الديمقراطية أشبه بمأتم حقيقي وإحباط بلا حدود . ربيع الديمقراطية في العالم العربي الذي تفجر في 2011 تعرض لانكسارات أو هزائم منذ سنتين ، وتحديدا منذ 2013 ، وهي انكسارات بعضها كان عنيفا ودمويا وبعضها كان باختراقات أجنبية وبعضها تحول إلى حروب أهلية ، وهي انكسارات وقعت بدرجات متفاوتة وعلى أوقات متفاوتة أيضا من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن إلى سوريا إلى تركيا ذاتها ، التي تعرض استقرارها لهزة عنيفة في انتخابات يونيو الماضي ، والتي فشل فيها حزب "العدالة والتنمية" في الحصول على أغلبية تساعده على تشكيل الحكومة ، واضطر للجوء إلى الأحزاب الأخرى التي دخلت البرلمان ، وكل حزب يملي شروطا مجحفة للغاية وأكبر من حجمه البرلماني والسياسي كثيرا ، أو بالتعبير الدارج "يبيعون فيه ويشترون" ، حتى لجأ الجميع إلى انتخابات مبكرة ، وهي التي فاجأ "حزب أردوغان" الجميع فيها ، بمن فيهم كل استطلاعات الرأي التركية والغربية ، بتحقيق فوز كبير ، يضمن له تشكيل الحكومة منفردا وقيادة تركيا لأربع سنوات مقبلة على الأقل ، في أجواء من الاستقرار السياسي والأمان الاقتصادي والاجتماعي . الشعب السوري هو أبرز الفائزين العرب من نتائج الانتخابات ، لأن تركيا الأردوغانية هي الداعم الأكبر والأهم للثورة السورية ، وكان انكسار "العدالة والتنمية" هذه المرة سينعكس كارثيا على ثورتهم ، لذلك كانت احتفالات السوريين وقوى الثورة هائلة بالنتائج ، المملكة العربية السعودية وقطر ، الحليفان الأبرزان للثورة السورية الآن عربيا ، أيضا فازوا سياسيا في تلك الانتخابات ، وقوي ظهر الاثنين بشدة بعد فوز "أردوغان" المبهر ، ولا شك أن نفوذ المملكة العربية السعودية وقطر صباح اليوم هو أقوى كثيرا منه أمس ، وأكثر ثقة بالمستقبل ، أيضا قوى الثورة الليبية التي تواجه مؤامرة إقليمية تقودها الإمارات ورأس حربتها المغامر الدموي الجنرال خليفة حفتر ، تلك القوى الثورية وحكومة طرابلس العاصمة من أبرز المنتصرين بنتيجة انتخابات تركيا ، لأن "العدالة والتنمية" داعم قوي لحكومة طرابلس وقوى الثورة المتمسكة بأهداف الربيع الليبي ، وفي مصر يمكن القول بأن أنصار الرئيس الأسبق محمد مرسي أيضا احتفلوا كثيرا بفوز حزب "أردوغان" بالنظر إلى أنه من المتعاطفين بقوة مع مرسي ، كما تحتضن تركيا في عهده القيادات والكوادر الإخوانية التي هربت من مصر في أعقاب أحداث 30 يونيو ، وشكلت لها حكومة "العدالة والتنمية" مظلة حماية سياسية ومنحتها حرية الحركة بشكل كبير . على الجانب الآخر ، مثل انتصار حزب "العدالة والتنمية" كارثة بالنسبة لنظام بشار الأسد ، لأنه أكبر أعدائه ، وأكبر داعمي ثورة الشعب السوري ضده ، كما أن إيران أيضا من أبرز الخاسرين بنتائج تلك الانتخابات ، وكان كثير من رموزها يمنون أنفسهم بهزيمة ساحقة لأردوغان تكسر شوكته وتشل يده عن دعم الثوار في سوريا ، وتضعف تحالفه مع السعودية العدو الأكبر لإيران حاليا ، أيضا مثل فوز حزب "أردوغان" ضربة مؤلمة لحزب الله اللبناني المتحالف مع نظام بشار الأسد ضد ثورة الشعب السوري ، لنفس الأسباب السالفة ، لأن "حزب الله" يعتبر ذراعا طائفيا لإيران في منطقة الشام ويدار سياسيا وأمنيا وعسكريا من طهران ، أيضا تعتبر حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي من أبرز من خسروا بفوز حزب أردوغان ، نظرا للخصومة السياسية المريرة بين الطرفين ، ولأن تركيا تعتبر من أبرز المتعاطفين مع خصوم السيسي من الإخوان وأنصار مرسي ، كما أن انتصار "أردوغان" سيضعف موقف مصر في سوريا ورغبتها في بقاء بشار أو مؤسسته العسكرية والأمنية ، أيضا مثل انتصار حزب "اردوغان" ضربة مؤلمة للغاية للإمارات ، بالنظر إلى أنها رأس الحربة في كل الثورات المضادة بالمنطقة العربية ضد الربيع العربي ، وخاضت معركة كسر عظم اقتصادية في تركيا تسببت في خسارة الاقتصاد التركي مائة مليار دولار في شهر واحد ، مما عرض أردوغان وحزبه لحرج بالغ ، لكنه نجح في تجاوزه ، والإعلام الإماراتي يعلق الآن على فوز أردوغان كما لو كان كارثة على العالم العربي كله . ويبقى الفائز الأكبر من تلك الانتخابات هو الشعب التركي نفسه ، الذي سيجني ثمار هذه النتائج استقرارا سياسيا يتيح له استكمال نهضته الاقتصادية ، وكان ملاحظا أن الليرة التركية ارتفعت بنسب كبيرة أمام الدولار عقب إعلان النتائج مباشرة في مؤشر واضح على إدراك السوق الذي لا يجامل بأن نجاح "العدالة والتنمية" هو ضمانة للاستقرار والأمان للمستثمرين في السنوات المقبلة ، وتبقى أيضا حقيقة أن رجب طيب أردوغان خرج من تلك المعركة هو وحزبه أقوى مما كان ، وفرض نفسه لسنوات طويلة مقبلة كأقوى زعيم سياسي مدني يقود دولة ديمقراطية حديثة في المنطقة .