9 سيدات يتعرضن للوفاة أسبوعيًا في غرف الولادة.. و21% من الحوامل مهددون بالخطر - وزارة الصحة تتسلم ألفى شكوى سنويًا.. وتغلق 2134 منشأة علاجية فى ألف يوم - د. جمال مصطفي: ستة عوامل تؤثر على الجراح وتجعله يرتكب خطأ طبيًا.. ومستشفيات بير السلم بلا ضوابط - د. صابر غنيم: نغلق المؤسسات العلاجية المخالفة.. ونعاقب الطبيب ب61 مادة قانونية
"آآآآآآآه... آآآآه".. صرخة مدوية أطلقتها أميرة عبد الهادى بعد منتصف ليل أحد ليالى بداية هذا الصيف، صرخة أقلقت مضجع زوجها محمد محروس والطفلة الصغيرة ابنتها التى لم تتجاوز السابعة من عمرها بعد.
كانت أميرة ولفظة كانت هنا سبب هذا التحقيق شابة صغيرة فى ريعان شبابها، لم تتجاوز الخامسة والعشرين بعد، فتاة ريفية بسيطة "يدوب بتفك الخط"، عاشت حلمها بأن تصبح "أم الواد"، ورغم تحذير الأطباء بعد معاناة ولادة طفلتها الأولي، لم تكترس بهم، وعزمت على أن تحمل لتأتى لزوجها بالولد الذى سيحمل اسمة.
نفض الزوج عن جسدة غطاءه، وراح يردد "الليلة يا أميرة.. هيشرف محروس الصغير.. أبويا محروس الكبير هيفرح بمحروس الصغير"، لم يكن يعلم الزوج وهو ينتفض فرحًا أنه على موعد مع الكارثة، الكارثة التى باتت تنتظرها كل فتاة تحلم بان تصبح أم.
داخل مستشفى الزيتون التخصصى بالأميرية وقف الزوج مشدوها، يحدق بعينية على باب غرفة العمليات، لا يسمع سوى زفرات أنفاسة المتقطعة، وضربات قلبة المضطربة، خلفة كعادة كل المستشفيات فى مصر ممر "الرعب الطويل" الذى خلى من أى بشرى فى تلك الساعة من فجر يوم جديد.
راح الزوج يقطع الممر المظلم إيابا ذهابا مرددًا، "متقلقش يا أبو حميد.. محروس هيشرف ويسعد أيامك.. ويشيل عنك كتير"، لم يعلم الزوج وهو يتمتم بتلك العبارات لماذا هذا الخوف المبهم الذى يشعر به، هل كان يشعر بالقلق على وليده أم على زوجته.
فجأة فتحت أبواب غرفة العمليات ليطل وجه إحدى الممرضات، فأسرع إليها ليستفسر عن حال زوجته، ولكنه تسمر فى مكانة لم يتحرك، فقد خرجت الممرضة بوجه شاحب، أظهرت بعض الانفعال والارتباك وهى تسرع الخطى، فحاول أن يستوقفها ليعلم منها أخبار زوجته، إلا أنها لم تنطق بأى شيء، بل أزاحته بيديها قبل أن تختفى داخل ظلمة الممر الذى لا ينتهي.
عاد الزوج إلى باب غرفة العمليات من جديد، الصق أذنه به، حاول أن يسمع أى شيء، لسانه لم يتوقف عن الدعاء، ولم تمر دقائق حتى وجد فجأة مدير المستشفى ومجموعة من الأطباء يبعدوه عن الباب وهم يصرخون فيه ويدخلون الغرفة، والأدهى أنهم لم يهتموا حتى بإخباره بأى معلومات أو تطمينات عن حالة زوجته، تركوه وحيدًا ينهش الخوف عظامه، الأمر الذى جعله يلتصق أكثر بباب الغرفة ليسمع أى كلمة تطمئنه على زوجته وطفله. "إيه اللى حصل.. إزاى تعملوا كده.. دى كارثة".. مجرد كلمات متوترة عصبية سمعها الزوج ليتأكد أن هناك جللا حدث إما لزوجته أو لطفله، لكنه لا يعلم ماذا يمكن أن يكون حدث داخل تلك الغرفة المشئومة، فجأة تهللت آسارير الزوج فرحا عندما سمع بأذنيه صراخ طفل، دمعت عينيه وراح يقفز مهللا "لقد جاء محروس.. لقد جاء محروس".. لم يكن الرجل هنا، لم يشعر بأى شيء، اختفى صوت الطبيب والممرضات، كان عقله مع ابنه وقلبه مع زوجته التى لا يعلم عنها أى شيء.
وسط فرحته العارمة والتى تراقص بها قلبه داخل قفصه الصدري، خرجت الممرضات تحمل اثنتين منهما لفة، أولى تحمل ابنه، والثانى تحمل جزءًا غاليًا من أحشاء زوجته، إنه الرحم الذى وبجرة مشرط قرر الطبيب أن يستأصله لخطأ ساذج ارتكبه.
وقع الصدمة على الزوج محمد محروس كانت أقوى من فرحة خروج "محروس" إلى الدنيا، كيف ستعيش زوجته، كيف سيحتمل قلبها المريض، كيف....، قاطعة صوت مدير المستشفى من أفكاره قائلاً: "يا بنى لازم تكون أقوى من كده.. مراتك محتجالك.. مين هيقف جنبها.. والمستشفى مش هتسيبك".
"هيئة الرقابة الإدارية.. النائب العام.. قسم الزيتون.. نقابة أطباء.. وزارة الصحة".. هيئات توجه لهم محمد محروس محمد على بالشكوى ضد إدارة مستشفى الزيتون التخصصى بالأميرية، والطبيب بنفس المستشفى الدكتور محمد عبد الحفيظ، ارتكاب خطأ طبى أدى إلى استئصال رحم زوجته أميرة جمال عبد الهادي، والذى أدى الى وفاتها بعد أقل من أشهر قليلة، مشيرًا إلى أن إدارة المستشفى رفضت إعطاءه رحم زوجته حتى يعلم الأسباب الحقيقية التى أدت إلى استئصاله، وأن إدارة المستشفى تواطأت من الطبيب فى قتل زوجته.
الكارثة التى أكدها محمد محروس، أن الخطأ الطبى الذى تعرضت له زوجته أدى إلى مضاعفات خطيرة فى بعض الأعضاء، حتى وصل إلى فشل كلوى حاد، أدى لاحتياجها إلى عمل جلسات فصل بلزما كل يومين لمدة ستة أشهر حتى وفاتها، موضحًا أنه تقدم إلى وزير الصحة بشكوى رسمية برقم 585/ 12/ 1 وتم تحويلها إلى الدكتور أحمد محيى رئيس المراكز الطبية المتخصصة وللأسف لم يفعلا أى شيء تجاه المستشفى أو الطبيب الذى أخطأ. ما حدث مع أميرة عبد الهادى لم ولن يكن الأخير فى مستشفياتنا المصرية، فداخل غرف الولادة يحدث الكثير من الإهمال الذى قد يؤدى إما لإعاقة جسدية أو للوفاة، فطبقا لإحصاءات الجمعية المصرية للدفاع عن ضحايا الإهمال الطبى هناك ما يقرب من 900 قضية إهمال طبى ضد أطباء وفقا لتقديرات النيابة العامة أى بمتوسط 3 قضايا يوميًا، بالإضافة إلى تلقى وزارة الصحة نحو 1200 شكوى سنويًا ضد الأطباء، بمعدل يصل إلي120 شكوى شهريًا، أى أن الأطباء المصريين يرتكبون 2100 خطأ قاتل سنويًا بمعدل ستة أخطاء يوميًا.
وطبقًا للإحصاءات تتعرض 9 سيدات كل أسبوع لخطر الخطأ الطبي، إما استئصال الرحم أو فقد الحياة، فى حين تتعرض 21% من الحوامل فى مصر لخطر داهم طبقًا لمنظمة الصحة العالمية.
ورغم أن وزارة الصحة قامت بإغلاق ما يقرب من 2134 مؤسسة علاجية والمراكز الطبية تعمل بدون تراخيص خلال الألف يوم الأخيرة بمعدل مؤسستين كل يوم، بسبب الإهمال الطبى داخل هذه المنشآت لعدم مطابقتها للمواصفات الطبية، إلا أن الإهمال الطبى لم يتوقف داخل غرف العمليات، ولا تزال الفتيات تموت أو تفقد الأرحام.
الطبيب والمعلومة: "المعلومة.. ثم المعلومة.. أهم ما يحتاج إليه الطبيب".. هذه فى العادة أهم ما يطالب به الأطباء ويؤكدون أنه السبب فى ارتفاع نسبة الأخطاء الطبية، مبينين أن غرفة العمليات تفتقد الكثير من الإمكانيات والأدوات التى تؤهلهم فى أداء عملهم وجراحاتهم.
الغريبة أن فريقًا علميًا شابًا مبتكرًا تمكن من اختراع نظارة طبية تمكن الطبيب من أداء عملة داخل غرفة العمليات بتوفير كل المعلومات المتاحة عن المريض، فقد رأى فريق "ميديكا" أن المعلومة بالنسبة للجراح داخل غرفة العمليات تعد أهم المكونات لنجاح أى جراحة، وطبقا للفريق الذى يتكون من نور الدين أحمد وأنور رضا الوكيل ووليد حلمى وأمجد محمد سري، الذين تمكنوا من تصميم أول "نظارة طبية" يرى فيها الجراح كل المعلومات التى يحتاجها أثناء إجراء الجراحة.
وقد أكد نور الدين أحمد، أن النظارة الطبية ستمكن الجراح من الحصول على أى معلومة لها علاقة بالمريض، من تشخيص وأشعة ورسم قلب وتحاليل وأنواع الأدوية التى يتناولها، مشيرًا إلى أن التصميم يعتمد على تكنولوجيا الكمبيوتر و"السوفيت وير"، وأن الفريق حصل على تمويل 90 ألف جنيه للتوسع فى صناعة وتصميم الكاميرا، وأنهم يتعاونون حاليا مع أحد مستشفيات القاهرة لمعرفة كل المشاكل التى تواجه الجراحين.
فى البداية أكد الدكتور جمال مصطفى أستاذ الجراحة بطب قصر العيني، أن السبب الرئيسى للأخطاء الطبية وكوارث الجراحين يعود لستة عوامل رئيسية، أهمها كفاءة الإمكانيات المحيطة بالجراح، وجودة الآلات التى يتعامل بها الجراح، وكفاءة قسم التخدير وطبيب التخدير، وكفاءة إدارة المستشفى والعاملين به، ومدى تطبيق الثواب العقاب على كل من يخطئ من الأطباء والممرضين، وفى النهاية يعود إلى درجة تمكن الطبيب نفسه ومدى تخصصه فى الجراحة، مبينا أن لجنة آداب المهنة بنقابة الأطباء تحقق فى كل شكوى يتم تقديمها ضد الأطباء. وأوضح الدكتور جمال مصطفى، أن هناك جهات رقابية على المستشفيات الحكومية والخاصة متمثلة فى آداب المهنة فى نقابة الأطباء ولجنة التفتيش الحر وهذه الجهات تقوم بالتحقيق فى أى شكوى يتم تقديمها من أى مريض، مشيرًا إلى أن بعض الشكاوى تكون مقدمة على فهم خاطئ ففى بعض الأوقات تكون مضاعفات طبية وليس إهمالا، بالإضافة إلى عدم القدرة على التحكم فى مستشفيات "بير السلم" التى تنتهك الأجساد وتعمل بدون أى ضوابط ومعايير.
وقال إن هناك نقطتين تواجه الطبيب المصرى وهى ضعف مستوى التمريض، وعدم وجود نظام متكامل للتعليم الطبى الذى يتطور بصفة مستمرة، فلا نستطيع الاعتماد على الدراسة فقط، مطالبًا بضرورة إعداد دورات لصغار الأطباء، خاصة أن دول العالم تجرى اختبارا كل خمس سنوات للأطباء ومدى اطلاعهم، مطالبًا بضرورة تحسين مستوى التعليم الطبى وتقليل عدد الطلبة الموجودين فى كلية الطب والاهتمام بالدراسات العلمية وتدريب الأطباء على الأجهزة الحديثة والتكنولوجيا وإرسال بعثات إلى دول العالم المتقدم والاهتمام بالإشراف على رسائل الماجيستير والدكتوراه وتحسين مستوى شروط مستوى اللجان الدائمة لتغطية أخطاء هيئة التدريس فى كلية الطب. أما الدكتور صابر غنيم مدير عام التراخيص الطبية السابق، فأكد أن وزارة الصحة تقوم بمعاقبة كل من يثبت ارتكابه أى أخطاء، وإنها تقوم بمراقبة ومتابعة كل المنشآت التى يثبت عدم امتلاكها أى تراخيص، مبينا أن الوزارة تتلقى أكثر من ألفى شكوى سنويًا ضد الأطباء، وأنها تقوم بفحص تلك الشكاوى وتتم إحالة الطبيب إلى لجنة التأديب بنقابة الأطباء، وعندما يثبت التحقيق إدانته يتم إيقافه عن مزاولة المهنة لمدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على سنة، وبعد انتهاء المدة يقدم طلبا إلى وزارة الصحة لمزاولة المهنة ولا تتم إعادته للعمل إلا بقرار من الوزير وبعد تأهيله من خلال المجلس الطبى بالوزارة، وفى حالة الشطب من النقابة لا تتم إعادته لمزاولة المهنة مرة أخري.
وقال غنيم، إن السبب المباشر لازدياد الأخطاء الطبيعة يعود إلى كوارث وفوضى المؤسسات العلاجية التى تعمل بدون تراخيص ويتم ملاحقتها، مؤكدًا أن بعض الأطباء يقومون بمزاولة المهنة فى غير تخصصاتهم لمجرد أنهم جراحين، وأن نقابة الأطباء تعاقب أعضاءها فى حالة مخالفة أى مادة من لائحة آداب المهنة التى تتضمن 61 مادة. الدكتور علاء غنام مدير برنامج الحق فى الصحة، أكد أن مصر أصبحت فى حاجة ملحة إلى تأسيس روابط للدفاع عن المرضى الذين يتعرضون بصفة شبه يومية للانتهاك الصارخ، موضحًا عدم وجود إطار قانونى لحق المريض، مثلما يوجد فى الاتحاد الأوروبى الذى يتعامل مع ميثاق عام لحقوق المريض.
وطالب غنام، بضرورة عرض ميثاق الدفاع عن المرضى على أجندة اللجنة التشريعية لمجلس الشعب القادم مثلما فعلت دول العالم المتقدم، مبينا أن الميثاق يتكون من 13 بندًا.
وأشار غنام، إلى إنه سيطالب المؤسسات الصحية بتشكيل مجالس يمثل فيها المريض، حتى يتمكن المريض المصرى من الحصول على حقه سواء بالتقاضى أو من خلال نقابة الأطباء التى يجب أن تدافع عن المريض، موضحًا أن الأخطاء الطبية تأتى فى العادة نتيجة المنظومة الفاسدة والمحددات الاجتماعية المتدنية للصحة.