غدا ذكرى أحداث فض اعتصام ميدان رابعة العدوية ، تلك المذبحة المروعة التي تحولت إلى كابوس سياسي لا يعرف أحد ، سلطة ولا معارضة ولا حتى حزب الكنبة ، كيف يخرج من ضغوطه الأخلاقية والإنسانية ، قبل أي ضغوط أخرى ، في هذا اليوم الكئيب قتل حرقا أو بالرصاص الحي قرابة ألف إنسان ، حسب التقديرات الرسمية ، وعدة آلاف حسب تقديرات جماعة الإخوان وأنصارها ، وأيا كان الصواب في هذا التقدير أو ذاك ، إلا أن الحقيقة في الاثنين أن مئات الشباب والفتيات من أبناء مصر قتلوا في صعيد واحد في يوم واحد ، على خلفية نزاع سياسي بين كتلتين ، وكلاهما مصري ، لم تحدث أي واقعة شبيهة بتلك في تاريخ مصر الحديث كله ، حتى مذبحة القلعة التي أدارها محمد علي باشا ، كانت بين قيادات عسكرية ، المماليك في بعضهم ، وراح ضحيتها بضع عشرات من المقاتلين في أقصى تقدير ، وفي أيام الاحتلال الانجليزي كانت أشهر مذبحة في تاريخ الاحتلال الذي امتد ثمانين عاما هي مذبحة "دنشواي" التي راح ضحيتها حوالي ستة من الفلاحين المصريين أعدموا بسبب وفاة جندي بريطاني ، وفي أيام الصدام المروع بين عبد الناصر والإخوان ، كانت هناك مذبحة سجن طرة حيث قتل الحراس حوالي عشرين مسجونا ، واعتبرت المذبحة الأقسى في تاريخ عبد الناصر ، أما "رابعة" فتلك قصة أخرى ، لا شبيه لها ، وسوف تظل عالقة في ذاكرة المصريين سنوات طويلة ، حتى بعد أن تنقضي تلك الحقبة وينتهي نزاعها وأشخاصها . الذين نجوا من تلك المذبحة يحكون مشاهد أشبه بأفلام الرعب التي تحترفها السينما الأمريكية ، أو أفلام الخيال ، كانت لحظة بين الحلم والحقيقة ، بين الفزع والكابوس ، مشاهد الجثث وطرقعات الرصاص الحي والطائرات التي تحلق في سماء "المعركة" والنيران التي تلتهم أجساد المحاصرين في بعض المباني وتحيلها إلى أشباح مشوية والجرافات التي لم تفرق بين الحجارة والخيام والأجساد الآدمية المحترقة ، وبعض تلك الوقائع نقلتها الكاميرات في مشاهد حية ، اعتمدت عليها المؤسسات الحقوقية الدولية ، ضمن شهادات أخرى وهي تعد تقريرها عن تلك المذبحة . مذبحة رابعة أتت في سياق مذابح أخرى متصاعدة ، بدأت من مذبحة المنصة التي قتل فيها حوالي ثمانين شخصا ، ثم مذبحة الحرس الجمهوري التي قتل فيها قرابة المائة وكان فيها مشاهد مروعة هي الأخرى ، ثم بعدها بأيام مذبحة رابعة التي أنست الجميع كل المذابح التي قبلها ، وقد وقع معها مذبحة ميدان النهضة أمام جامعة القاهرة في نفس اليوم وراح ضحيتها العشرات من القتلى ، إلا أن مذبحة رابعة خطفت الأبصار والمشاعر ، وقد تلا ذلك مذابح أخرى يمكن وصفها بالصغيرة تجاوزا ، حيث كان عدد القتلى فيها بين الستين والثمانين قتيلا في اليوم الواحد ، مثل مذبحة ميدان رمسيس . خطورة مسار الدم أنه ذو اتجاه واحد ، إذا دخلت فيه فلا رجوع ، إلا بنهاية أحد طرفي المواجهة ، لأن أحدا لن يتحمل دفع فاتورة الدم ، فيتم الهروب منه إلى الأمام ، بالمزيد منه ، وتلك هي الكارثة ، والحقيقة أن تلك المواجهة المروعة لم يكن لها ما يبررها ، بمنطق الصراع نفسه في تلك اللحظة رغم قسوته ، وكان يمكن الخروج منه بتكاليف أقل ، لو أن الطرفين كانا يعتصمان بالمسئولة الوطنية بقدر كاف ، وقد اعترف الدكتور محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية وقتها أنه كان هناك اتفاق على أن تنتهي الأمور سلميا ، ويتم فض الاعتصامات تدريجيا ، وخروج كريم للرئيس الأسبق محمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ، وكان هذا السيناريو ببعض الصبر قادرا على إحداث النقلة وتمريرها بدون هذا الإرث الدموي الثأري الخطير ، كما كان سيعبد الطريق للنظام الجديد بتكاليف أقل ويجعل فرصة احتواء الأمور أسهل وأقصر ، ولكن البعض كان متعجلا ، وربما كان منطق الغضب والصدور المشحونة والرغبة في الانتقام و"تأديب" الخصم وسحقه أعلى من أي عقل سياسي آخر ، فكانت المذبحة وكانت الورطة التي يدفع الوطن كله ثمنها حتى الآن ، بما في ذلك النظام الجديد نفسه ، وأصبحت عقدة العقد في أي حل سياسي متصور . أيضا ، في ذلك الوقت كتبت مرارا ، وتحدثت مرارا ، أناشد أنصار مرسي أن لا يخوضوا الصراع بمنطق المعادلة الصفرية ، لأن نتائج ذلك كارثية ومروعة ، إما قاتل أو مقتول ، ولا وسط ، إما أن تعلقوهم على المشانق في ميدان التحرير كما كنتم تتوعدون أو يعلقوكم هم على المشانق في السجون والمعتقلات ، ولا وسط ، وقلت وقتها أن هذه القضايا الملتبسة يصعب أن تتعامل منها بمنطق المبادئ والثوابت الديمقراطية ، لأن البلاد في مرحلة انتقالية وزخم الثورة ما زال حاضرا وحراك الشارع أقوى من حراك المؤسسات والديمقراطية الوليدة هشة جدا ، والأفضل الوصول إلى حلول وسط ، وأن تخسر بعضا وتحتفظ ببعض المكاسب أفضل من أن تغامر بخسارة كل شيء ، كانت هذه رؤيتي ، وقلتها بإخلاص شديد وتجرد كامل ، وقلق على الجميع ، وعلى الوطن . بعد قرابة عامين على المذبحة قرر مجلس الوزراء في اجتماع رسمي أن يغير اسم الميدان ، من ميدان "رابعة العدوية" إلى ميدان "المستشار هشام بركات" ، وهو النائب العام الذي منح الإذن بعمليات الفض ، ثم كان هو نفسه ضحية لتوابع وتداعيات الدم على الوطن فاغتالته خلية إرهابية في طريقه إلى مكتبه ، وقد كان بإمكان الحكومة أن تجامل ذكرى المستشار الراحل بإطلاق اسمه على الميدان الذي كان يسكن فيه ، أو الميدان الذي كان يقع في نطاقه مكتبه "ميدان الإسعاف" ، ولكن ، لأن ذكرى رابعة تشغل بال الجميع ، وتهيمن على ذاكرة الجميع ، وتضغط على أعصاب الجميع ، ذهبوا في حالة كيد بدائي لإطلاق اسمه على الميدان الذي شهد المذبحة . أيا كانت التفاصيل وتحميل المسئوليات هنا أو هناك ، فإن مصر ستعاني طويلا ولسنوات قادمة من تلك الذكرى الكئيبة ، ولا أحد يعرف كيف سنخرج من لعنتها ، وكيف سيتجاوزها أي مشروع سياسي أو تصالحي في المستقبل القريب أو البعيد . رحم الله شهداء مذبحة رابعة ، وكل شهداء مصر وثورتها ، وألهم أهلهم الصبر والسلوان ، ووفق كل مخلص يعمل على إنقاذ الوطن من هذا النفق المظلم .