التصدق على الفقراء والمساكين والغارمين والمرضى وتفريج كربات المسلمين من أجَلّ الأعمال وأنفعها وأحبها إلى الله تعالى، وهو برهان على الإيمان وصدق المنفق وتجرده من البخل والشح والتعلق بملذات الدنيا.. ولا يخفى ما للتصدق الواجب والمستحب من أثر عظيم في إصلاح الأمة وسد حاجات الناس وتعففهم عن الحرام وتقوية التكافل الاجتماعي وإقامة المشاريع التطوعية، وغير ذلك من المصالح العظيمة التي يصعب حصرها.. إلا أن الكثير من الناس يقعون عند وبعد التصدق في أخطاء من شأنها إبطال صدقاتهم وضياع ثوابها وإيذاء المتصدق عليهم نفسيًا، ومن بينها:
أولًا: الرياء وقصد السمعة والثناء الحسن من الناس، ومما يدل على أن المتصدق في قلبه مرض إقامة مؤتمر صحفي ودعاية مبالغ فيها لو أراد أن ينفق في مشروع أو يتبرع لمؤسسة خيرية كبيرة.. وبعضهم تجده من أكرم الناس في لقاءات قومه ومجامع الناس ولكن إذا قصده فقير أو احتاجه قريب له في السر امتنع عن العطاء. قال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} البقرة: 264
ثانيًا: بعض الناس ينفقون في مجال معين للوصول بذلك إلى منصب أو مركز، ولا يساهمون في عمل أو مجال آخر لا يحقق لهم مصالح، مبتغين بذلك ثواب الدنيا الذي ربما يحصلون عليه، وربما لا .. قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} آل عمران: 145.
ثالثًا: من الناس مَن يتصدق على شخص أو أسرة أو قبيلة لينال من وراء ذلك منفعة معينة، فإن كانت المنفعة التي يريد الوصول إليها محرمة كالزنا والرشوة فهو آثم، وإن كانت المنفعة مباحة كزواج وبيع وتبادل مصالح فعمله مباح لكن لا ثواب له في الآخرة لأنه فعل ذلك لأجل الحصول على عرض من الدنيا، ولم يقرض الله قرضا حسنا، لكن لو كان قصده لله ثم عرض عليه قصد دنيوي، فصدقته لا تبطل لكن ينقص من ثوابها لأنه لم يخلصها لله.
رابعًا: محاباة المتصدق في زكاته، فلا يتحرى عن المستحق لها، فيبذلها لقريبه غير المستحق لينال ثناءه ورضاه، أو يعطيها لأناس يرجو منهم منفعة ومصلحة.. أو يكون له دين عند فقير فيسقط الزكاة منه فهذا آثم في تصرفه، فالزكاة لم تسقط عنه وذمته لم تبرأ بذلك.
خامسًا: مَنُّ المتصدق على من أعطاه الصدقة سواء في مجلس خاص أو عام، كأن يعدد له مواقفه قائلا: أعطيتك .......... وأعطيتك............ وهكذا، وتعظم المنة إذا أشاع ذلك وأخبر الناس بفعله.. والمنة تبطل الصدقة لأنه لم يقصد بذلك ثواب الله وإنما الانتصار لنفسه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} البقرة: 264
سادسًا: إيذاء المتصدق الفقير بأي لفظ أو تصرف عند إعطائه الصدقة، مما يهين كرامته، ويشعره بالضيق والحرج، فقد يكون أكرم عند الله منه وأفضل خُلُقا منه، لكن نزلت به مصائب، وضاقت عليه الأحوال، فيأتي هذا الغني فيقول له إلى متى تأخذ مني أو آخر مرة أعطيك، أو أنت لا تشبع ونحو ذلك!.. فهذا يبطل صدقته لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} البقرة: 262
سابعًا: إذا تصدق الغني على إنسان أو أحسن إليه بوجه من الوجوه وقصد منه الثناء والمدح والمكافئة وكانت نيته منطوية على هذا المقصد وقلبه متشوق له، فإذا جفاه هذا الإنسان أو ابتعد عنه لظرف من الظروف غضب لذلك وعاتبه بشدة وعاداه وعامله معاملة الدائن لغريمه وهذه نية خطيرة وعمل محرم لأن الواجب عليه حين تصدق أن تكون نيته خالصة لوجه الله، لا يرجوا جزاء ولا شكورا من أحد. قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} الإنسان: 9
ثامنًا: بخل المتصدق الغني على أهل بيته وحرمانهم من النفقة الواجبة، في الوقت الذي ينفق فيه بغزارة في وجوه أعمال الخير المتعددة، فتجد مسكن أهله قديما متهالكا وأثاثهم يرثى له وملابسهم رثة، أو تجد ولده المتزوج الخارج من البيت وظيفته متواضعة وحالته صعبة فلا يقدم له مساعدة تعينه على تحمل ظروف الحياة الصعبة. أو تجد ابن أخيه وأقاربه الأقربين فقراء وفي شدة عيش وربما سألوا الناس فلا يمد لهم يد المساعدة مع كونه كريما في الإنفاق على الغرباء.. وهذا من قلة البصيرة وضعف الفقه لروح الشريعة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك» [رواه مسلم].
تاسعًا: ومن الممارسات المؤلمة التي تدل على قلة اليقين أن يكون للإنسان عادة حسنة في الإنفاق على أسرة أو شخص منذ مدة طويلة ثم تحدث بينه وبينهم خصومة أو موقف شخصي فيوسوس له الشيطان وينتصر لنفسه ويقطع هذا الخير عنهم ويحرم نفسه الثواب الذي قد يكون سببا في مغفرة ذنبه ودخوله الجنة. فلما كان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح بن أثاثه فآذاه في ابنته وشارك في قصة الإفك فغضب أبو بكر وحلف أن يقطع النفقة عنه، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور: 22 فقال أبو بكر: "بلى، والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة".