بمجرد الإعلان عن نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات التى أسفرت عن فوز كبير للإسلاميين، انطلقت الأقلام والفضائيات تهاجم الفائزين وكأنهم استغفلوا الشعب المصرى وسرقوا أصواته فى غفلة من الزمن!! بل البعض (آخر حرف من اسمه: ساويرس!) طالب الغرب بالتدخل لوقف زحف الإسلاميين!! لكن فى بلد مثل تونس، التى كانت توصف بأنها الأكثر علمانية، لم نرَ هذا الضجيج وحملات التخويف عند فوز الإسلاميين هناك؛ بل نُقل عن السيدة "مية الجريبى " الأمينة العامة للحزب الديمقراطى التقدمى (وهو حزب شيوعي!) قولُها بعد فوز حزب النهضة الإسلامى: "المؤشرات واضحة جدًا، والحزب الديمقراطى التقدمى فى وضع سيئ. هذا قرار الشعب التونسى وأنا أنحنى أمام خياره وأهنئ من حازوا تزكية الشعب". هذا هو لب الحقيقة التى غابت عن البعض عندنا فى مصر: ضرورة احترام خيار الشعب، بالتوازى مع النظر إلى مسئولية الذات عن النجاح أو الإخفاق. الذين صفقوا كثيرًا عندنا فى مصر للتجربة التونسية ولإسلامييها.. لماذا لا يفعلون مثل من انهزموا فى الانتخابات هناك؟! هل من مصلحة مصر أن نعيد "المأساة" التى حصلت بعد الاستفتاء، حينما أصر البعض على رأيه ولم يُسلِّم باختيار الشعب، فكانت النتيجة أننا مازلنا "محلك سر" حتى بعد انقضاء الشهور الستة التى حددها الاستفتاء لتسليم السلطة للمدنيين؟! هل كُتب علينا أن ندور فى حلقة مفرغة، ودائرة لا نهاية لها من الجدل والتشكيك والاتهامات والتخوين. أعتقد أنه لا يخفى على أحد أن هذا الوضع البائس، لا يُبشِّر بخير.. والخاسر الأكبر فيه هو مصر، والرابح الأكبر هو أعداؤها المتربصون بها..!! لكن الليبراليين والعلمانيين واليساريين فى مصر يفتقدون - للأسف- "ثقافة الهزيمة" التى تجعلهم يسلمون بالنتائج أيًّا كانت ويسعون فى الوقت ذاته لتجاوزها والاستفادة من مرارة التجربة.. إن كان للتجربة مرارة! وعوضًا عن ذلك، لجأوا إلى تشويه الخصم (الإسلاميين) والتقاط العثرات وتضخيمها وكأنها هى الأساس، مع أنه من المعروف أن أى انتخابات حتى فى أعتى الديمقراطيات بها تجاوزات لا تضر العملية الانتخابية مادامت بقدر معين يمثل استثناءً لا قاعدة. و"ثقافة الهزيمة" كما أتصور تشمل عدة أمور: - التسليم بنتائج المباراة. - عدم اليأس والانكسار، فالهزيمة مرةً لا تعنى نهاية الدنيا. - البحث عن نقاط الضعف داخل النفس والأفكار والأطروحات ومحاولة تجاوزها فى المرات التالية. - الاستفادة من نقاط القوة عند الخصم، ومعرفة كيف أحرز النجاح. - مواصلة الإصرار وشحذ الهمة، والتذكر الدائم بهدف تحقيق الفوز. - البدء فورًا فى الخطوات العملية، وعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد. بهذه الخطوات وغيرها يستطيع أى إنسان - أو حزب- أن يتجاوز الهزيمة.. أما تعليق الفشل على قوة الآخرين، وعدم النظر إلى أخطاء الذات وتهافت الأطروحات، ولطم الخدود وشق الجيوب ولعن الآخرين وتبادل الشتائم، وعدم القدرة على تجاوز مرارة الهزيمة.. فهذا كله يحجب عن الإنسان رؤية الحقيقة. لكن يبقى التساؤل المهم: هل الليبراليون جادون فى التعامل مع المشهد السياسى كما هو والاعتراف بشرعية التيار الإسلامى، أم يسعون إلى إعادة تشكيل هذا المشهد حسب قناعاتهم التى هى غريبة تمامًا عن المجتمع المصري؟! هل هم قادرون على فك الارتباط بالمشروع الغربى وعدم الدوران فى فلكه، أم هم لا يستطيعون ولا يرغبون لأنهم يستمدون منه الدعم المادى والمعنوى؟! أعتقد أن هذه الانتخابات سيكون لها ما بعدها.. وإن لم يستوعب المنهزمون الدرس هذه الجولة، فإن الجماهير التى تعرف جيدًا هويتها ومصالحها، هى التى ستلقنهم الدرس مرة بعد أخرى؛ لعلَّهم يتعلمون "ثقافة الهزيمة" قبل فوات الأوان!