الأربعاء: أكتب لكم من مكان بعيد، بديعة طبيعته ساحر جماله يقع فى غرب مقاطعة ساسيكس بجنوب بريطانيا، حيث حضرت للمشاركة فى مؤتمر عن صياغة دساتير الدول فى المراحل الانتقالية خصوصاً عقب الثورات، هناك وفود مشاركة من مصر وتونس وليبيا والعراق ولبنان والأردن والسعودية والكويت وسلطنة عمان بالإضافة إلى المشاركين من بريطانيا وأمريكا وإندونيسيا وغيرها وجميعهم من القضاة والبرلمانيين وخبراء القانون الدستورى، بالإضافة إلى بعض الناشطات فى مجال حقوق المرأة، البرنامج مشحون بالعمل لدرجة يبدو أننا لن نتمكن معها من الاستمتاع بالطبيعة الساحرة وبجو مشمس دافئ غير متوقع فى هذه الفترة من العام. الخميس: بدأت جلسات المؤتمر الذى ينعقد فى "ويستون هاوس" وهو قصر تاريخى "فخيم" يرجع بناؤه إلى القرن الخامس عشر وتعكس حوائطه العالية المزخرفة وحدائقه الواسعة الغناء أحداثاً تاريخية هامة منها أنه أصبح خلال الحرب العالمية الثانية معتقلاً لجنود المحور ثم مكاناً للقاءات التفاوض بين الحلفاء المنتصرين والقيادات الألمانية الناقمة على النازية الهتلرية التى دمرت وطنهم حيث أنشأ ونستون تشرشل مؤسسة "ويلتون بارك" لتعليمهم قيم الديمقراطية. فى رأيى أن هذه الروح الأوروبية المنتصرة مازالت تسيطر على الذهنية الغربية بشكل يخيل لها أنها مسئولة ليس فقط عن تعديل انحرافات النازية الناجمة أساساً عن النفسية الأوروبية صاحبة المنحى العنصرى الإقصائى، وإنما أيضاً عن إصلاح "انحرافات" كل من يختلف مع النموذج الديمقراطى الغربى الذى يعتبرونه النموذج المثالى الصالح للتطبيق فى كل دول العالم، ثمة شعور داخلى بالاستهانة ينتابنى ويرسم على فمى شبح ابتسامة ساخرة. الجمعة أعجبتنى النائبة العراقية ميسون الدملوجى حين انتقدت فى كلمتها الصريحة المميزة قانون برايمر، الذى قسم العراق على أساس عرقى ومذهبى، كانت مخلصة فى نصيحتها إلى وفود بلدان "الربيع العربى" عندما يكتبون دساتيرهم من أن تتسلل إلى هذه الدساتير تلك الروح الطائفية التى دسها الأمريكيون فى مشروع الدستور العراقى، ذكرتنى كلماتها بالاعتراف الجرىء لعضو لجنة صياغة الدستور الدكتور محمود عثمان حين قال: لقد بعث الأمريكان لنا دستوراً كاملاً لنوقع عليه!! نظرت إلى وجه سوزان ويليامز أستاذة القانون بجامعة أنديانا الأمريكية الجالسة فى الناحية المقابلة لى على مائدة الاجتماع فرأيته يتضرج بالدماء، ربما كانت دماء الخجل أو الحنق أو خيبة الأمل، لكنها على أية حال زادت ابتسامتى اتساعاً. السبت: تمحورت الورقة التى ألقيتها حول أنه ليس بالضرورة كون الدساتير التى تتضمن نصوصاً خاصة بحقوق المرأة والأقليات هى الدساتير التى تكفل حماية أكبر لهذه الحقوق، وإنما العكس قد يكون صحيحاً خصوصاً إذا ماعمدنا إلى تفكيك وتحليل البنية القانونية لهذه النصوص، وضربت أمثلة على ذلك من دساتير مقارنة لعدد من الدول، وقد أسعدنى الاتفاق الموضوعى من أكثر الحاضرين مع الفكرة ومع التحليل الذى قدمته خصوصاً أن أحد أهم محاور المؤتمر هو تشجيع الدول العربية على تضمين دساتيرها الجديدة نصوصاً خاصة بحقوق المرأة والأقليات وهو أكثر ما أخشى أن يتسرب إلى الدستور المصرى الجديد لأنه فى رأيى سيهيئ الأرض لبذور الطائفية والشقاق، وربما كان هذا هو مايهدفون إليه من عقد مثل هذه المؤتمرات. الأحد: الجلسة الختامية، على كل منا أن يلقى كلمة قصيرة تتضمن تقييماً لما دار من مناقشات خلال جلسات المؤتمر ورؤيته المستقبلية لدستور بلاده ولأوضاعها بشكل عام، وقد أشرت فى كلمتى إلى انفصال من يُطلق عليهم "النخبة العربية" عن الواقع الذى يعيشه الشارع العربى وضربت مثالين لذلك مما دار داخل المؤتمر ذاته: الأول مازعمته إحدى المشاركات المصريات التى تدير مركزاً لحقوق المرأة من أن الإسلاميين فى مصر يحتقرون النساء حتى أنهم يضعون وروداً بدلاً من صور المرشحات! فقلت إن هذا غير صحيح والدليل على ذلك أن حزب النور السلفى هو أكثر الأحزاب المصرية التى نجحت فى حشد آلاف النساء فى مؤتمراتها الانتخابية، كما أن الأحزاب الإسلامية بوجه عام هى من قدمت وجوهاً نسائية على قوائمها فى الوقت الذى توالت فيه استقالات النساء من الأحزاب الليبرالية واليسارية لتهميشهن فى القوائم الانتخابية، أما المثال الثانى فكان ماطالب به أعضاء الوفد التونسى من مزيد من "المكتسبات" للمرأة التونسية ومنها ضرورة تقنين زواج التونسية المسلمة بغير المسلم!! فقلت إن هذه المطالب لاتعبر إلا عن هذه "النخبة" فقط بينما منحت أغلبية الشعب التونسى أصواتها فى انتخابات الجمعية التأسيسية لحزب النهضة الإسلامى وهو بالمناسبة الحزب التونسى الوحيد الذى فازت المرأة التونسية على قوائمه. فاجأتنى زميلة مصرية متخصصة فى قضايا النوع الاجتماعى "جندر" بينما كنا نتناول العشاء عندما صارحتنى قائلة: إننى اتفق معك تماماً فى كل ماقلتيه، فنحن منفصلون بالفعل عن الواقع الاجتماعى لذا فإننا نعمل فى هذا المجال منذ سنوات عديدة دون أن نحقق نجاحاً يُذكر. الاثنين: هاهى أخبار الانتخابات البرلمانية تتناهى إلينا ونحن عائدون إلى مصر، تحقيق التيار الإسلامى لمراكز متقدمة أمر طبيعى ومتوقع، ذاك انعكاس حقيقى للإرادة الشعبية وللارتباط الواقعى بقضايا الجماهير، كنت أتمنى لو كانت هذه الصورة المدهشة للإقبال الشعبى الكثيف من أجل انتخاب جمعية تأسيسية وليس لأجل برلمان يأتى فى التوقيت الخاطئ وفى الترتيب الخاطئ، هذا هو رأيى الذى أعلنته منذ البداية، وهو الرأى الذى مازلت متمسكة به أصبت فى اجتهادى أو أخطأت، لكن الرضوخ لرأى الأغلبية هو فقط مايلزمنى، إنها نعمة الديمقراطية.. ولعنتها أيضاً.