البيئة العلمية: التعليم ليس فقط منهج الحكومة الذي تفرضه على الأطفال والشباب، التعليم في الحقيقة هو كل المعلومات والمهارات والخبرات التي يكتسبها الإنسان طوال حياته ويستعملها في بناء مستقبله وإتقان عمله و صناعة شخصيته، وبالتالي فالتعليم ليس فقط مصدره المدرسة والمناهج الدراسية، بل مصدره أيضًا البيت والأسرة و المجتمع ، مصدره أيضًا التليفزيون و الإعلام، مصدره أيضًا القراءة الخارجية و أي دورات أو اجتماعات يحضرها الإنسان، لذلك يمكن أن يكون منهج المدرسة يتكلم عن أهمية التعليم واحترام العلماء بينما الإعلام و المجتمع يتكلم عن عدم أهمية التعليم وعدم احترام العلماء، فأيهما سيستقر في عقل الطالب أو الشاب؟ قديما كان التعليم له جانب إنساني كبير حيث كانت كل حرفة لها مجتمعها، وكان الابن عادة يعمل في مهنة أبيه، الحداد ابنه يعمل حدادا، والنجار ابنه يعمل نجارا.. إلخ، وبالتالي فكانت الخبرات المتراكمة تتضمن ليس فقط بعض المعلومات عن المهنة و بعض المهارات يتعلمها في مكان التدريب ثم يذهب إلى البيت ليعيش في عالم مختلف، بل كان المعلم و الأب متقاربان و في بعض الأحيان كانوا شخصا واحدا. و من هنا يظهر ترابط التعليم بالمجتمع و المحيطين به. لذلك كان يتم النصح لأي طالب علم بأمرين: أولا: الحرص على مجالس العلماء (المؤتمرات و الدورات والاحتكاك بالعلماء المتميزين احتكاكا مباشرا حتى يتحول الطالب إلى ابن يتبناه العالم أو الخبير أو الحكيم) ، ثانيا: الصحبة الصالحة و التي تتضمن رفاقا مهتمين بنفس العلوم والأخلاق ليساعدوا الإنسان على الاستمرار ويظل محور حديثهم وحياتهم وتبادل المعلومات والأفكار في تطور حول العلوم والأخلاق المتعلقة بمجال العلم المهتمين به. واليوم في العصر الحديث رغم أن الإنسان أصبح يمتهن حرفة تختلف عن حرفة أبيه، ويعيش الأب أغلب ساعات النهار بعيدا عن أولاده فلا تتوفر الفرصة للتعليم والتربية المباشرة بين طفل أو مراهق وبين رجل وصل إلى سن الحكمة والخبرة، لكن يمكن تعويض هذا وتعويض التواصل مع العلماء والصحبة الصالحة عبر الكثير من طرق التواصل الحديثة مثل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الحديثة، لكن المهم هو التواصل المستمر مع العلماء والحكماء ومع الصحبة المناسبة والقراءة المفيدة لخلق بيئة ومجتمع من حولك يساعدك على النجاح، وهذا ممكن تحقيقه على المستوى الشخصي والأسري حتى لو كانت الحكومات لا تساعد على ذلك. أزمة التعليم في مصر: بحكم خبرتي في مجال التعليم الطبي و البحث العلمي و النشر الدولي و احتكاكي بالكثير من منظومات الطب و المستشفيات والجامعات والبحث و التعليم في الدول المتقدمة وفي مصر، أجد أننا في مرحلة تراجع مستمر ومتسارع وشديد في التعليم و ذلك ليس من نقص إمكانات، لكن من انعدام رؤية، فلو ذهبنا إلى رجل يعيش طوال عمره في الصحراء و لم يسافر أبدا إلى بلاد فيها بحار و غابات و سألناه عن أهمية الغابات أو البحار، فلن يستطيع الإجابة وربما يقول إنها أشياء غير مهمة ولا قيمة لها! ففاقد الشيء لا يعطيه، كذلك حين نتحدث إلى أي مسؤول عن التعليم فعادة يعطينا صورة وردية عن الإنجازات الرائعة! ، أو يحكي بانبهار عن تجربة زيارته لمدة بضعة أيام إلى إحدى الدول المتقدمة !. و كلاهما لا يصلح لبناء وجهة نظر، لأن هذا علم وفيه الكثير من الأبحاث التي نطلع عليها كل يوم في مجال التعليم عامة و في مجال الطب و جراحة العظام خاصة بحكم تخصصي، لذلك استأذن القارئ أنني سأستعمل في مقالي أمثلة كثيرة من التعليم الطبي. أي شخص ناجح له ثلاثة واجبات.. العمل في تخصصه وتعليم الآخرين والبحث العلمي.. مثلا الطبيب الناجح لديه ثلاثة واجبات أساسية لا غنى عنهم و تتكامل هذه الواجبات لتصنع معا طبيبا ناجحا: -1- علاج المرضى حسب أحدث الأبحاث وهذا يحتاج إلى إطلاع مستمر و تدريب مستمر و تنمية للمهارات و المعلومات و القدرات في مجال التخصص -2- تعليم طبي ( الطبيب يعلم الآخرين و يتعلم من الآخرين ) حيث يجب أن يحضر سنويا عدة مؤتمرات أو دورات ليستمر على تواصل مع الجديد في الطب و من ناحية أخرى تعليم الآخرين من حوله مثل تعليم الأطباء الزملاء الأصغر منه أو تعليم التمريض أو حتى تعليم المرضى -3- البحث العلمي فالطبيب الناجح لا يتابع فقط الأبحاث بل يكون منتجا للأبحاث العلمية الدولية في مجال تخصصه فهذا يصنع العقل الباحث النقدي القادر على الابتكار و تطوير علاجات مناسبة لمشاكل البيئة المحيطة به التعليم في مصر يعاني من أزمات شديدة. و هذا شيء لابد من الاعتراف به ، ولن يغير هذه الحقيقة بعض التصريحات أو التجميل أو بعض التعديلات السطحية التي تتم للاستهلاك الإعلامي و الدعاية و الظهور بمظهر الإنجازات العظيمة بينما في الواقع نوعية الخريج تتدهور من عام لعام. و كلما سمعنا أحدهم يتحدث عن تطوير مناهج التعليم نجده في النهاية يضيف بعض المعلومات للحفظ و يزيل بعض المعلومات من منهج الحفظ !. و هذا لا يعتبر تطويرا ، و لا حتى تجميل. التعليم يجب أن ينتج شخص منتج للعلم و ليس فقط مستهلكا له، و ذلك يكون بالشخصية و العقل الناقد و الباحث الذي يقوم بعمل أبحاث علمية و يبحث عن المعلومات و ينتقدها و يقيمها ليختار الصحيح و يترك الضعيف منها. و التعليم العالي جزء من سلسلة طويلة تبدأ في التعليم الابتدائي. و لكي نحصل على تعليم جيد يجب أن ننظر إلى السلسلة من أولها.