يا مثبت العقل في الرأس يارب. لا يمر عليك يوم رمضاني في أي رمضان، يكتب الله لك أن تشهده ويعينك على صيامه، دون أن تقرأ في صفحة رمضانية سؤالًا أو طلب إحاطة، عن حكم الرفث في نهار رمضان، أوتشاهد من يستفتي شيخًا فضائيًا عن حكم القبلة في نهار رمضان، بل وربما سمعت مثلي فتوى إذاعية، تجيب سائلًا عن حكم من جامع زوجته في نهار رمضان ناسيًا، إزاي ناسيًا ما تعرفش، وإذا كان هو قد نسي فكيف تنسى هي أيضًا، برضه ما تعرفش.
للمرة الألف في عمري القصير، قرأت في الصفحة الدينية في صحيفة حكومية واسعة الانتشار، موضوعًا أكل جزءًا لابأس به من الصفحة، يستطلع فيه قارئ عن حكم الإسلام في قبلة الصائم لزوجته، لم أشغل بالي طويلًا بالتساؤل عن هذا القارئ، الذي قطّعه الشوق لزوجته بحيث لم يعد “يستطيع” معها صبرًا، فقد لفت انتباهي أكثر رد الشيخ الأزهري الكريم الذي برغم أنه قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح القبلة للصائم، وإنه صلى الله عليه وسلم كان يباشر زوجته وهو صائم طبقًا للحديث الصحيح، وإن المحرم هو المعاشرة لا المباشرة، لكنه لم يترك القارئ المشتاق لزوجته يهنأ كثيرًا بهذا الرأي، فذكّره قبل أن يهرع لهري زوجته تقبيلًا قائلًا: “القبلة حلال فقط لمن يملك القدرة على ضبط نفسه، وأنه إذا كان الأقدمون يجدون مشقة في ضبط أنفسهم فمابالك بنا نحن ضعاف الإيمان الذين لا نمتلك القدرة على ضبط أنفسنا؛ لذلك علينا أن نقفل الأبواب التي ينفذ منها الشيطان إلينا ونمتنع عن تقبيل زوجاتنا”، أقسم بالله أن هذا ما نشر بالنص، وهو فضلًا عن تأكيده على المصيبة التي نعيشها كمسلمين مع الكثير ممن يتخذون مواقع الإفتاء، يكشف أساسًا أن مولانا يمتلك مفهومًا قديمًا جدًا عن القبلة، ربما كانت آخر مرة قبّل فيها زوجته عند نجاح ابنهما البكري في الجامعة، وإلا لكان قد سمح للقارئ المشتاق أن يقبل زوجته، لكي يشجعها على سبك الأكل وطبخه بنفس حلوة، وألا يضيق عليه ما وسعه الله عزوجل.
في نفس اليوم شاهدت برنامج فتاوى شهير في إحدى القنوات الفضائية، أعتقد أنه يصنف خطأً كبرنامج فتاوى، بينما هو ليس سوى برنامج استشارات جنسية من الدرجة تريبل إكس، كان ثمانية من المتصلين قد سألوا عن حكم قبلة الصائم وحكم جماع الصائم وحكم مباشرة الصائم وحكم مداعبة الصائم، حتى شعرت أن المذيع والشيخ قد شعرا بالتقصير تجاه زوجتيهما، من فرط ما تلقياه من أسئلة في هذا الموضوع، ما زاد وغطّى أن متصلة كريمة اتصلت وحياة غلاوتك، لتقول إن خطيبها يلامسها وينزل منها سائل خفيف فهل ذلك يوجب الغسل؟، سألها الشيخ: وهل يحدث ذلك في نهار رمضان؟ فانكسفت وأغلقت الخط، ليقول له المذيع: “مش معقول ده بيحصل في نهار رمضان، أكيد بيحصل بعد الفطار”، بعدها داهمهما اتصال من مشاهدة كريمة، يبدو أنها من كثرة ما سمعته من أسئلة تخص ما تحت الحزام، نسيت أنها تتصل ببرنامج فتوى، حيث طفقت تسأل بصوت متقصّع كان في حد ذاته، يتنافى مع آداب الشهر الفضيل: “من ساعة ما اتجوزت جوزي من تلات سنين وللأسف مافيش أي علاقة زوجية”، تدخل المذيع النابه بسؤال مصيري: “تلات سنين ومافيش دخول خالص.. معقولة؟”، هنأه الشيخ أنه خطف السؤال من على طرف بُقّه، فأجابت المتصلة: “لا حصل دخول عند دكتورة.. ومن ساعتها بقى لنا تلات سنين مافيش علاقة زوجية خالص.. أصله بياخد مخدرات وبودرة. في العلاقة بيبقى تعبان ولازم بياخد فياجرا.. وقفت جنبه ودخلته مستشفى وعالجته. ومع ذلك دائمًا تعبان ورافض يروح الدكتور”، لم يتركها المذيع تكمل ودون أن ينتظر رأي الشيخ قال لها إن من حقها أن تطلب الطلاق خوفًا على نفسها من الفتنة، لكنها صعبت عليه المسألة عندما قالت: “بصراحة هو حنين قوي معايا.. وعشان كده أنا وقفت جنبه.. لكن أنا عايزه أخلف وعشان كده عملنا تحليل للسائل المنوي طلع بيخلف بس أنا عايزه أسأل مش اللي أنا فيه ده حرام لأني خايفة أضعف وعايزة أعرف رأي الشرع”.
طيب، لعلك تلومني لأنني أكتب لك كلامًا كهذا وأنت صائم، فما بالك لو سمعته مثلي على الهواء مباشرة وأنت صائم، لعلك عندها ستفعل مثلما فعله صديق لي اتصل بي بعد أن انتهت السائلة الخائفة من سؤالها ليسألني هل أمتلك رقم تليفون برنامج الفتاوى، فقلت له مداعبًا: “إيه عندك مشكلة مماثلة؟”، قال لي: “لا بس كنت عايز أسأل فضيلة الشيخ هل الاستماع إلى صوت السائلة الكريمة ينقض وضوء الصائم؟”. وقبل أن تفكر الآن في النهوض من فورك لكي تبعث لي رسالة غاضبة تلعنني وتكفرني أو على الأقل تُفسقني، فأستحلفك بالله ألا تظن أنني رجل يكره أن يستفتي الناس شيوخهم عن الجنس وشؤونه، أو أنني رجل متخلف ضيق الأفق يقف ضد الاستشارات الحميمة سواء كانت لشيخ أو لطبيب، أنا يا سيدي والله أؤمن أنه لا حياء في الدين ولا في العلم، ومشكلتي مع برامج الفتاوى التي باتت تنهمر علينا كسيل العَرِم من المحطات الفضائية هي مشكلة أبعد من تحت الحزام بكثير.
لا أزعم أنني أحطت علمًا بكل هاتيك البرامج، لكنني أزعم أنني ظللت لفترة طويلة متابعًا جيدًا لها حتى كدت أضِلُّ، وأزعم وأرجو أن أكون مخطئًا في زعمي أنني لم أشاهد ولو لمرة في أي من هذه البرامج مستفتيًا كريمًا أو حتى لئيمًا، يسأل ولو على سبيل الغلط عن حكم الإسلام في التعذيب، أو رأي الدين في إهانة كرامة الإنسان في قسم الشرطة، لم أسمع مواطنًا يسأل على الهواء مباشرة (حتى ولو قطعوا في وجهه الخط) عن رأي الشرع الحنيف في تزوير الانتخابات أو توريث السلطة أو تهريب الفاسدين خارج الأوطان أو مكافأة الفاسدين بتعيينهم رؤساء لشركات بترول أو نهب المال العام أو الكذب على الشعب أو التخلف الفكري والحضاري الذي يعمنا ويعمينا، للأمانة ربما كان السؤال الوحيد الذي سمعته يتعلق بهم عما يجري في أوطاننا، كان حول كيف ينجو المسلم من خطر الافتتان بالشيعة، ونتع الشيخ يومها في رده خطبة عصماء جعلتني أشعر أن الفُرس على الأبواب.
للأسف كان المفروض أن يكون انتشار هذه البرامج الدينية، في كل المحطات أرضيها وفضائيها ومليانها وفاضيها، دليلًا على ارتفاع الحس الديني عند ملايين المشاهدين، لكنك عندما تتابعها، تكتشف أنها أصبحت دليلًا على تفسخ العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، وجهلهم بأبسط مبادئ دينهم الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق، فخلّص كثيرٌ من المنتسبين إليه على مكارم الأخلاق، والمهم أنني كل مرة يثقلني الهم من مشاهدة تلك البرامج، التي لا يسأل المصريون فيها إلا عن الطهارة والغسل والسوائل النازلة والطالعة، أحلف أنني لن أعود لمشاهدتها، لكن الطبع دائمًا يغلب التطبع.
ذات مرة كتبت عن محاولة جريئة قمت بها للاتصال ببرنامج الاستشارات الجنسية الذي يتخفى في قناع برامج فتاوى والذي حدثتك عنه بالأمس، وحكيت كيف وفقت بعد عدة محاولات في الوصول إلى الكونترول، جاءني صوت مندوب البرنامج المختص باستقبال المكالمات والتنقية منها، وأنا أحاول تمالك مشاعر الفرحة سألني: حضرتك تحب إن شاء الله تسأل عن إيه؟، قلت له: الحقيقة أنا سمعت رأي الشيخ الفاضل في حكم الرفث إلى النساء، لكن حبيت أسأله إن شاء الله عن حكم رفث الحكام إلى الشعوب في نهار رمضان أو في ليله. جاءني صوته زاعقًا: قصدك إيه يا أخ لو سمحت؟، قلت له: يعني كنت أريد أن أسأل فضيلته أليس التوريث في نهار رمضان رفثًا إلى الشعوب، أليس الفساد ونهب المال العام والظلم والرشوة واسترخاص الإنسان الذي كرمه الله رفثًا إلى الشعوب، ثم أريد أن أسأل الشيخ الكريم هل إذا حدث تعذيب لمواطن في القسم ولم ينزل سوى دم خفيف من المواطن هل يصح صيام الضابط وأمناء الشرطة. بالطبع لم أتلق الجواب على أي من أسئلتي؛ لأن رجل الكونترول الجبان قفل السكة دون أن يفسد صيامه بشتيمتي. عندما أغلقت السماعة من طرفي، كان الشيخ في البرنامج إياه يشرح من طرفه لإحدى السائلين بحماس شديد، الفرق بين المني والمذي والودي، في نفس الوقت الذي كان شريط الشات أسفله، يستمطر اللعنات على أعداء الإسلام دون أن يفكر أحد من “المتشاتتين”، أن يذكر أنه لا يوجد عدو للإسلام أساء إليه، مثلما أسأنا إليه نحن الحاملين لاسمه في خانات ديانتنا.
يومها سارعت بإغلاق التلفزيون، وهرعت إلى إذاعة القرآن الكريم، ليشاء الله أن أجد في صوت الشيخ محمد رفعت رحمه الله بعض عزاء، كان يقرأ من آيات الله الكريمة قول الله تعالى: “ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله”، هزّت الآية الكريمة أعماقي فدعوت الله أن يرحمنا برحمته، ويجعلنا من الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا واعترفوا بذنوبهم، عسى الله أن يتوب عليهم، ثم دعوت للإمام ابن حزم بالرحمة، وقد تذكرت مقولته أن تلك الآية الكريمة، تنطبق على كل من أراد أن يضل الناس عن سبيل الله عز وجل، حتى لو استخدم في ذلك مصحفًا.
فصل من كتابي (ضحك مجروح) نشرته ذات رمضان في عام 2006. · المصدر: موقع «التقرير»