حسمت المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار عدلي منصور، الخلاف القانوني الذي استمر لعقود، بشأن اختصاص القضاء العادي (محاكم الاستئناف والنقض) بالرقابة القضائية على قرارات المنع من السفر الصادرة من النائب العام ، وقررت إصدار حكم قضائي باختصاص القضاء العادي بإلغاء قرارات النائب العام بالمنع من السفر. يأتي ذلك في ضوء التحقيقات الجنائية، وعدم اختصاص مجلس الدولة (محاكم القضاء الإداري) بالمنازعات الخاصة بهذه القرارات. تعود وقائع القضية التي صدر فيها الحكم إلى أن النائب العام كان قد أصدر في 5سبتمبر 1999 قرارًا بإدراج كل من هاني صلاح الدين حافظ ورفاه عدنان العقاد على قوائم المنع من السفر، لمقتضيات التحقيق معهما في نيابة الأموال العامة في حصولهما على تسهيلات ائتمانية من بنك أمريكان إكسبريس بالإسكندرية، فأقاما دعوى أمام محكمة القضاء الإداري لإلغاء القرار فرفضتها، فطعنا أمام الإدارية العليا فحكمت بعدم اختصاص محاكم مجلس الدولة بالفصل في مشروعية قرارات المنع من السفر الصادرة من النيابة العامة في إطار وظيفتها القضائية، وأحالتها إلى محكمة استئناف الإسكندرية للاختصاص. إلا أن محكمة الاستئناف أصدرت في 2004 قضت هي الأخرى بعدم اختصاصها بنظر دعوى إلغاء قرار المنع من السفر، مبررة ذلك بأنه لا يوجد قانون ينظم إجراءات التقاضي بشأن المنع من السفر، وأن وزير الداخلية أصدر قراراً عام 1994 بتنظيم قوائم الممنوعين، نص على تحديد الجهات صاحبة الحق في طلب الإدراج على قوائم الممنوعين، ومنها النائب العام، وأجاز لمن أدرج اسمه التظلم أمام إدارة القوائم بمصلحة وثائق السفر والهجرة والجنسية. واعتبر المدعيان أن حكم الجهتين القضائيتين (العادي والإداري) بعدم اختصاصهما بنظر دعواهما، يمثل تنازعاً سلبياً للاختصاص، فأقاما دعوى أمام المحكمة الدستورية لتحديد الجهة المختصة بالفصل في قضايا المنع من السفر. كان المستشار الدكتور طارق عبدالقادر، الرئيس بهيئة مفوضي المحكمة الدستورية، قد أعد تقريراً أوصى فيه بأن يكون القضاء العادي هو المختص بنظر دعاوى بطلان قرارات النائب العام بالمنع من السفر الصادرة وفقاً لمقتضيات التحقيق في القضايا المختلفة، مؤكداً أن "قرار المنع من السفر يمليه المنطق القانوني، باعتباره قراراً قضائياً وليس إدارياً، ما دام صادراً من النيابة العامة في نطاق وظيفتها القضائية كسلطة تحقيق واتهام، خاصة وأن المنع من السفر يدخل في إطار حق النيابة في تقييد حرية المتهم في التنقل متى كان هذا لازماً لمصلحة التحقيق، باعتبار أن حبس المتهم احتياطياً ينطوي على تقييد حريته في التنقل داخلياً، بينما تقيد هذه الحرية خارجياً بالمنع من السفر". وقال التقرير إنه يجب التمييز بين القرارات القضائية التي تصدرها النيابة العامة كسلطة تحقيق، ومن بينها قرارات المنع من السفر، وبين قراراتها الأخرى الإدارية التي تخضع لرقابة محاكم مجلس الدولة (القضاء الإداري) لأن القرارات القضائية هي التي تتصل بإجراءات التحقيق والاتهام كالقبض على المتهمين وحبسهم وتفتيش منازلهم ورفع الدعوى العمومية ومباشرتها أو حفظها وغيرها من الإجراءات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية، أما باقي القرارات التي تخرج عن النطاق القضائي فتصدر من النيابة كسلطة إدارية. وأكد التقرير أن عدم صدور تشريع ينظم القواعد الموضوعية والشكلية لإصدار النيابة العامة أوامر المنع من السفر لمقتضيات التحقيق، أمر لا يغير من الطبيعة القضائية لهذه الأوامر، ولا يغير من طبيعة المنازعات الناشئة عنها، لأن النيابة تتخذ قرار المنع كسلطة تحقيق وليست كسلطة إدارة، خاصة أن المادة 15 من قانون السلطة القضائية نصت صراحة على أنه " فيما عدا المنازعات الإدارية التى يختص بها مجلس الدولة، تختص المحاكم بالفصل فى كافة المنازعات والجرائم إلا ما استثنى بنص خاص، وتبين قواعد اختصاص المحاكم فى قانون المرافعات وقانون الإجراءات الجنائية" مما يحسم اختصاص المحاكم الجنائية بجميع المنازعات المتعلقة بالتحقيق الجنائي، إلاّ ما يستثنى بنص خاص. وشدد التقرير على أن "المحاكم الجنائية تملك تصويب الأوامر القضائية التي تصدرها النيابة في مجال التحقيق الجنائي، إذا تبين مخالفتها لصحيح حكم القانون، وهو الاتجاه الذي اعتنقته محكمة النقض بشأن قرارات المنع الصادرة من النائب
العام" مشيراً إلى أن "القاعدة القانونية استقرت على أن قاضي الأصل هو قاضي الفرع، مما يعني أن كافة الإجراءات التى يستلزمها التحقيق يكون الطعن عليها أمام المحاكم الجنائية". وذكر التقرير أنه يجب على المشرع التدخل لسد الفراغ التشريعي بشأن المنع من السفر، حيث اقتصر الدستور الحالي على تحديد السلطة المختصة بإصدار القرار وضماناته، ولم يتم تحديد أحواله أو طرق الطعن عليه، مما يتطلب إصدار قانون بذلك، أخذا في الاعتبار ما كفلته المادة 62 من الدستور من ضمانات لحرية التنقل والإقامة وعدم تقييدها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة. جدير بالذكر أن المحاكم العادية والإدارية كانت في وقت سابق تصدر أحكاماً متناقضة ومختلفة حول هذه القرارات ، حتى داخل الجهة القضائية الواحدة ، تارة بالاختصاص والتصدي لها موضوعياً، وتارة آخري بعدم الاختصاص، ثم أصدرت دائرة توحيد المبادئ بالمحكمة الإدارية العليا حكماً في 6 أبريل 2013 باختصاص مجلس الدولة بالرقابة على هذه القرارات، وهو ما نقضته "الدستورية" في حكمها الأخير لعلاج الفراغ التشريعي بتنظيم المنع من السفر مؤكدت في حكمها أن المحاكم الجنائية وحدها تستطيع إلغاء وتصويب الأعمال القضائية للنيابة.