قبل حوالي ستة وعشرين عاما أقدمت على أول محاولة لاقتحام عالم القاهرة الساحر وقتها ، كنت كاتبا شابا يبحث عن فرصة لنشر ما يعتقد أنه كتابة مهمة أو جديدة ، أتيت من قريتي في محافظة الشرقية ببراءة أهل الريف وبساطتهم أقتحم على الناشرين بالقاهرة مكاتبهم وأعرض عليهم ما كتبت ، فكانت نظرات الاستغراب والإشفاق التي ألحظها في عيونهم تصيبني بالإحباط ، كانوا يأخذون مني الأوراق ويعدونني بإحالتها إلى لجنة النشر ومن ثم أعاود زيارتهم بعد شهرين أو ثلاثة ، لم يكن آنذاك موبايل ، كما أن الهاتف نفسه لم يكن وسيلة واسعة الانتشار ، وأدركت بالخبرة والتتابع بعد ذلك أن هذا مجرد إشفاق من الصدمة على شاب صغير بالاعتذار الصريح ، لكني أشهد أن ذلك الجيل من الناشرين ، ومعظمهم في رحاب الله الآن ، كانوا أوسع صدرا وأكثر إنسانية في التعامل مع الكتاب الجدد . في تلك الأثناء كتبت مقالة صغيرة ، تعبت عليها عدة ليالي ، وأرسلتها إلى مجلة "المختار الإسلامي" وكانت واسعة الانتشار في أواسط الثمانينات ، وظللت أنتظر المجلة "الشهرية" على أمل أن أرى مقالي فيها ، حتى كان اليوم السعيد ، فوجدتها منشورة في صفحة مخصصة لبريد القراء ، وقتها شعرت بفخر زائد وأنا أرى اسمى "مطبوعا" في مجلة مشهورة وبين أسماء كبيرة ، فقررت أن أشد الرحال إلى القاهرة من جديد لكي أقابل ناشر هذه المجلة لعلي أجد عنده بعض التقدير ، وشهادة خبرتي موجودة وهي نشره مقالة لي في بريد القراء !! ، وعندما وصلت إلى مقر "المختار الإسلامي" في شارع الفجالة وفتها ، وسألت عن المجلة قالوا لي : اصعد إلى "الصندرة" أعلى المكتبة ، فصعدت عبر سلم صغير ضيق إلى "صندرة" تضطر إلى خفض رأسك فيها قليلا حتى تصل إلى مكتب "الحاج حسين عاشور" ناشر المجلة ، لم يأخذ الأمر معه طويلا ، لأني فوجئت بالرجل يفتح لي قلبه سريعا ويدعوني إلى الكتابة في المختار الإسلامي وأنه يعتبرني ابنا من أبنائها وخفف من خوفي واضطرابي كثيرا وتعامل معي كأني كاتب بحق وحقيق . تطورت الأمور سريعا مع المختار الإسلامي التي انتقلت بعد ذلك إلى شارع القصر العيني ، وكانت روح الأبوة والبساطة الشديدة التي يتعامل بها "حسين عاشور" معي ومع غيري من الجيل الجديد تلهب خيالي في أن أحقق ذاتي من خلال تلك الفرصة ، وبعد سنوات قليلة فوجئت بالرجل يناديني : يابني جهز ورقك عشان أقدمه لنقابة الصحفيين ، ولم يكن الأمر وقتها يشغلنا ، فكان هو الذي يطاردنا ويذكرنا ويعنفنا للتقصير في ذلك . كان حسين عاشور يملك مطبعة المختار ومكتبة المختار ومجلة المختار ، وعندما حاصرته بعض عوائد الزمن واضطرته إلى أن يبيع ، باع المطبعة ثم باع المكتبة ، لكنه ورفض بعناد وإصرار أن يبيع المجلة ، كان يعتبرها رسالته في الحياة ، وأنه يموت بموتها ، وما زال حتى الآن ، رغم وهن العظم وكبر السن الذي حبسه حتى عن مغادرة عتبة بيته ، مصرا على أن يكمل الرحلة ، وينتظم في إصدار المختار الإسلامي . يا حاج حسين ، أرجو أن تتقبل مني إهداء العدد الأول من صحيفة المصريون ، عرفانا بفضلك علي ، وعلى كثير من أبناء جيلي ، كتابا وأدباء ومثقفين .