إن أي مجتمع لا يخلو من أكثرية تجمعها عقيدة واحدة أو أصل واحد، وأقلية قد تختلف في أحدهما، أي أنها تختلف مع الأكثرية في عقيدتها أو أصلها. فأي نسيج اجتماعي لا يخلو من هذين القسمين، وأي مجتمع صلب متماسك، يكون تماسكه وصلابته بسبب قوة نسيجه الاجتماعي أو قوة العلاقة بين أكثريته من جهة وأقليته من جهة أخرى. وأفضل مثال على ذلك في التاريخ الإنساني ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حينما هاجر من مكة إلى المدينة، فقد انتقلت أغلبية المدينة إلى الإسلام، وبقيت الأقلية إما يهودية أو نصرانية أو وثنية. هنا تبرز أول وثيقة للدولة المدنية في التاريخ الإسلامي، وثيقة المدينة، التي عقدها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الأقلية والأكثرية، كان شعارها ومرسومها واضح: "أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا". وهكذا كان التطبيق الفعلي لصحابته (صلى الله عليه وسلم)، حينما بلغت الفتوحات الإسلامية مبلغًا عظيمًا، وقابلت العقائد الأخرى العقيدة الفاتحة بالفرح؛ لأنها خلصتها من أقلية كانت تنهب حقوق الأكثرية، وتفرض سيطرتها بالقوة عليها (ومما يبرز في ذلك ما فعله الرومان مع أقباط مصر، وكيف أنهم سلبوهم أرضهم وأموالهم، وتحكموا فيهم بعقيدة الغزاة المستعمرين). بل بلغ الإسلام مبلغًا أن ينتصر لهذه الأقليات الدينية، حتى ولو كانت على حساب الأكثرية المسلمة (وما موقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من عمرو بن العاص وابنه (رضي الله عنهما) ببعيد! ولا تزال كلمة عمر ابن الخطاب خالدة ناصعة البياض: "يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا!"؟. هكذا صارت الأكثرية المسلمة تضرب أروع الأمثلة في التعامل الراقي مع الأقليات الدينية، هذا التعامل المبني على وثائق واضحة تقرر: بأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولا ينبغي أن تحسب تلك التطبيقات الخاطئة في تاريخنا الإسلامي –والتي هضمت حقوق الأقليات- لأن الفترة الذهبية (فترة الوحي الإلهي المقترن بالتطبيق البشري) ستظل مشرقة ناصعة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين. هنا انطوى الواقع الإسلامي بهذه الصورة، أغلبية متحدة في العقيدة وأقلية تعتقد بغير دين الأغلبية، وأصبحت صورة واقعية ما حدث من اختلاف بين هذه الأقليات والأكثرية في المذهب أو العقيدة، هنا تبرز الفرق الإسلامية (من سنة وشيعة)، وتظهر العقيدة الإسلامية مع عقيدة مخالفة (نصرانية أو يهودية). انفتق الواقع على هذه التعددية الواقعية، وبرزت عبر التاريخ الإسلامي بؤر فيها شد وجذب بين هذه الأطراف جميعًا، فمن صراعات بين المختلفين في العقيدة أو المذهب، ومن مقاربات تؤكد ضرورة العيش المشترك وأهميته. لكن واقعنا المعاصر، تبرز فيه هذه الصراعات بقوة، فقد اعتقد الغزاة المستعمرون أن أفضل الوسائل لنهب ثروات الأمم هي اللعب على وتر أقلياتها الدينية، والضغط بهذه الورقة أحيانًا للوصول إلى مكاسب مادية أو معنوية (لا يخفى على أحد ما تفعله إيران من استغلال لأقلياتنا الدينية الشيعية –هذه الأقليات هي أقرب إلى نسيجنا الاجتماعي العربي منه إلى النسيج الإيراني الفارسي- بدعوى أن هذه الأقليات هضم حقها، أو بدعوى أنها واقعة تحت حكم أقليات سنية دكتاتورية –نموذج العراق مثلا، أو ما تفعله أمريكا في مصر بالضغط على ورقة الأقليات للخروج بكسب مادي من ثروات البلاد المنهوبة، او لرفع رايات وهمية من العظمة والمجد المزيفين). هنا تبرز هذه الأسئلة على الساحة العربية والإسلامية: - هل تخضع تلك الأقليات الدينية لهذه الإغراءات، وتخون عروبتها ونسيجها الاجتماعي المشترك؟ - هل تستطيع هذه الدول الغازية فرض سيطرتها، وتجعل هذه الأقليات مطية للوصول إلى مآربها وأهدافها؟ - هل تستطيع هذه الأقليات التعالي على هذه الإغراءات، وتنتصر لعروبتها وتاريخها الوطني المشترك؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يكون بيد هذه الأقليات الدينية نفسها. ما أود أن ألخصه هو قولي: بأن الأقليات الدينية لن ترى عيشًا آمنًا مطمئنًا إلا في ظل دولها وشعوبها، فهذه الأقليات –وإن اختلفت في العقيدة أو المذهب- تجمعها أرض واحدة، وتاريخ مشترك، وعوامل جامعة بينها وبين الأكثرية التي تعيش معها. وأؤكد على أن هذه الدول الاستعمارية لا تريد إلا مصلحتها، وحينما تتعارض مصلحتها مع مصالح الأقليات ستضرب بمصالح الأقليات؛ لأن سياستها قائمة على المنفعة والغرض، وليست سياسة أخلاقية عادلة. وأوصي بأنه ينبغي ألا نرمي بورقة الأقليات، ونفقد الأمل في حبها لأوطانها، ونتهمها بالعمالة والخيانة والعمل خارج مصالح الامة. يجب علينا ان نحافظ على أقلياتنا، وأن نُفَعّل: - الحوار المشترك، فالخلاف طبيعة إنسانية. - تبني الخطاب الإعلامي المعتدل، و تجنب الخطاب الصادم. وأخيرًا: إن أي شعب لا يستطيع أن يعيش بدون تنوع، لكن هذا العيش مرهون بتطبيق أخلاقيات الحب والمودة والسلام والعيش المشترك، ويظل دستور حبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم) خالدًا "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.