تملكتني الدهشة الشديدة من هدوء أعصاب المستشار هشام بركات النائب العام وصمته أمام واقعة اغتيال الطالب إسلام صلاح الدين عطيتو ، الطالب بالفرقة الرابعة بكلية هندسة عين شمس ، والذي تم اختطافه من الكلية أو أمامها عقب أدائه الامتحان ، ليظهر في اليوم الثاني جثة هامدة في منطقة صحراوية بالتجمع الخامس ، حيث اعترفت الشرطة بأنها قتلته بالرصاص ، وبقيت التفاصيل غامضة حسب الروايات المختلفة ، فقالت الداخلية أنه إرهابي خطير وأنه متورط في قتل العقيد وائل طاحون ، وطبعا الشاب مات فلن يتمكن أحد من التحقيق معه أو سماع أقواله !! . حادث اختطاف مواطن في حد ذاته مسألة خطيرة وتستدعي تحرك النائب العام ، أما قتله بعد اختطافه بساعات وإلقاء جثته في الصحراء ، فهو أدعى لتشكيل فريق تحقيق كامل بطلب النائب العام ، للمعاينة وسماع شهادة الشهود بمن فيهم زملاؤه الطلاب وأساتذته وجيرانه وكل من يتصل بالواقعة بسبب ، أما هذا الصمت الغريب فهو مثير للدهشة ، ولا يصح في أي معيار قانوني الاكتفاء برواية الداخلية التي اعترفت بقتله ، بأنه كان إرهابيا وأنه قتل في تبادل إطلاق الرصاص مع الضباط وأنها حكمت بأنه هو الذي قتل العميد طاحون ، وإنما التحقيقات ينبغي أن تتسع بما يليق بجلال الدم وهيبة الدولة وحرمة العدالة . مسألة اتهام ميت أو مقتول بأنه إرهابي ، لا يمكن التسليم بها ، لأنها وجهة نظر للجهاز الأمني الذي قتل هذا المواطن ، ولا يمكن إثبات إرهابيته إلا ببراهين وأدلة قاطعة أو اعترافات بغير طريق الإكراه ، أو استنادا لحكم قضائي عادل وبات ونهائي ، أما أن يقوم أي ضابط أو فريق أمني بقتل شخص ثم يبلغ النائب العام أن هذا الشخص هو إرهابي وتم التخلص منه بعد اشتباك مع القوات ، فهذا باب خطير للغاية ، خاصة في تلك الأوقات المشحونة والمتوترة ، والتي تحاصر الداخلية فيها الاتهامات بالتورط في القتل ، حتى مع المتظاهرين السلميين ، وهناك محاكمة تجري حاليا لأحد الضباط المتورط في قتل الناشطة شيماء الصباغ ، كما أن هناك محاكمات تجري لضباط آخرين وأمناء شرطة متورطين في قتل مواطنين آخرين أو حتى زملاء لهم في الشرطة بحجج مختلفة ، وبشكل عام ، هناك حالة استسهال القتل والدم هذه الأيام بصورة غير مسبوقة ، وهذا أدعى لكي لا يتم التسليم برواية أي ضابط لتبرير عملية قتل صريحة . زملاء الطالب يؤكدون أن مجهولا أتى للسؤال عليه في اللجنة وأن آخرين كانوا بانتظاره وتم خطفه من أمام الكلية ليظهر جثة في اليوم التالي ، وعميد الكلية أقر بأن الطالب كان في الامتحان فعلا وخرج بعدها ، وهذا ما يجعل الأمور ملتبسة جدا ، فمن هو هذا الإرهابي الخطير المتورط في قتل قيادة شرطية كبيرة ، ثم يذهب للامتحان مع زملائه وأمام المراقبين والأساتذة كما لو كان في نزهة ثم يخرج من لجنته بهدوء ويتحرك ببساطة وتلقائية ، لو كان سارق دجاجة وليس قاتل عميد شرطة فلن يجرؤ على هذا الظهور أساسا وسيختفي عن الأنظار تماما ليكون مكانه كما قتلوه في صحراء بعيدة . اتحاد طلاب هندسة عين شمس قدم استقالة جماعية لتواطؤ الجامعة مع الأمن لإهدار دم زميلهم ، حسب رؤية الطلبة ، وهناك غليان شديد بين الطلبة وفي الجامعات بسبب تلك الواقعة المخيفة ، والتي تكشف عن استهتار غريب وخطير . الميزة الأساسية التي تعطي للدولة قوتها وهيبتها المعنوية الكبيرة في أي صراع سياسي ، هي أنها دولة وليست ميليشيا ، دولة تقوم على قانون ومؤسسات وأجهزة مسؤولة وعدالة حتى ولو كانت مجروحة وحد أدنى من احترام كرامة الإنسان وحياته وحقوقه ، وعندما تغيب تلك المعاني تسقط هيبة الدولة ، وتبدأ موجة من الاستباحة والعنف المنفلت ، خاصة عندما نكون في ظل أوضاع اجتماعية وسياسية محتقنة ومنقسمة لدرجة الجنون كالذي نحن فيه ، كما أن السياسات الأمنية الجديدة ينبغي أن تراعي فروق الزمان والتجارب والخبرات ، فما كان يناسب في التسعينات الماضية من إجراءات وممارسات لما كنت تحارب تنظيما صغيرا عنيفا بدون حاضنة اجتماعية ، لا يناسب اليوم وأنت تواجه تيارا واسعا مجهولا منسوجا في حاضنة اجتماعية ضخمة بالملايين ، والقيادة الأمنية التي لا تستوعب هذا الفارق ، وتستسهل التقليد لخبرات سابقة ، ستورط الدولة والقيادة والوطن والشعب كله في هلاك حقيقي ومؤكد ، والعاقل من اتعظ بغيره شرقا وغربا ، وإذا صحت المقولة البريطانية بأن قرارات الحرب من الخطورة بحيث لا تترك للجنرالات وحدهم ، فإن التجربة في المنطقة العربية تؤكد أن القرار الأمني من الخطورة بحيث لا يترك للشرطة وحدها . حمى الله مصر من كل شر ، وألهمها رشدها السياسي والأمني والديني والاجتماعي .