دعوتان انطلقتا فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى ، لو كانا قد صدرا من أشخاص عاديين ، لهان الأمر ، لكنهما صدرا من قمتين كان لهما تأثير كبير على العقل العربى عموما والمصرى خصوصا ، أولهما توفيق الحكيم ،والثانى الدكتور لويس عوض . وعلى الرغم مما قد يوحى بأننا بالفعل كنا أمام موقفين أومعركتين ، إلا أن القضية واحدة ، ذلك أن الحياد المقصود به مزعوما لدى الحكيم فهو أن تقف مصر من الدول العربية موقفا حياديا ،أما ما ذهب إليه لويس عوض من وصف للعروبة بأنها " أسطورة " ، فقد كان بذلك يتعامل مع العروبة وكأنها قميص يمكن أن يخلع أو يلبس ،وفقا لمقتضى الحال ،ونرجئ الحديث عن " أساطير " عوض ، لنتوقف اليوم أمام "وهم" الحكيم : ..... كانت مصر بعد حرب أكتوبر تعيش مأزقا حقيقيا ، حيث ضاقت الأرض على النظام القائم بما رحبت ، فقد كانت تعيش مأزقا سياسيا واضحا وآخر اقتصاديا ... كان المأزق السياسى أن مصر بعد أن كافحت ودفعت الكثير من المال والأرواح ، وجدت نفسها ما زالت تعانى من الاحتلال الصهيونى ، فلم تؤت الحرب أكلها كاملا ،وظلت أجزاء شاسعة من أرض سينا تحت قبضة هذا الاحتلال ،والتعنت الإسرائيلى المسانَد من قبل الولاياتالمتحدة بدا وكأنه صخرة يصعب زحزحتها . وأما المأزق الاقتصادى فقد كان مخيفا ، من كثرة ما أنفقت قبل الحرب وأثناءها وبعدها ، فى الوقت الذى بدأت فيه خزائن عربية عديدة تنتفخ بفيضان مال متدفق ، حتى أن السادات كان من حين لآخر يطلب العون المالى من دول ما عرف أيامها بدول " اليسر " ، والمقصود بها الدول الخليجية بصفة خاصة ، هذا الأمر الذى وقفت منه بعض هذه الدول، فى هذه الفترة موقفا غير طيب فوصفت إحدى جولات السادات للخليج بأنها رحلة " تسول " ،ولن أنسى أبدا هذا الأمر الذى قرأته بنفسى ، مما أشعر كثيرا من المصريين بجرح شديد الوطأة ، قاسى الألم ،وهم ينظرون إلى كم ونوع ما دفع المصريون ،وما أصبحوا يلاقونه بعد ذلك ، على الأقل ، على المستوى الرسمى. هنا برزت فرصة للبعض أن يتساءل عن حقيقة " التضامن العربى " ،وأن العرب مثلهم مثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، وهو السؤال نفسه الذى فرض نفسه بقوة على أهل الكويت ، مثلا ، عقب الغزو العراقى لأرضهم عام 1990 ، فحدث ما حدث من بداية التراجع العربى العام . لكن تداعيات هذا تراوحت من حيث النتيجة بين المصريين ، ففريق ، مثل كاتب هذه السطور ، وملايين آخرين أيضا ، ظلوا على قناعتهم بالعروبة ، استنادا إلى منطق يقول إن الحق لا يقاس على الرجال ، فيضعف الإيمان بالفكرة بناء على مواقف طارئة للبعض ،وإنما يقاس الرجال على الحق ، بينما ذهب فريق آخر ، مع الأسف الشديد إلى محاكمة الفكرة ومقاضاة المبدأ بناء على سلوك هذا وذاك ، أشخاصا أو دولا. الفريق الأول ، آمن بأن العروبة هى ركن كبير وراسخ من أركان هوية مصر ، لا يسقطه سفه من هنا أو طيش من هناك ، أما الفريق الثانى ، فقد اعتبرها " قميصا " يمكن أن يخلع ويلبس وفقا لمقتضى الحال . كنت أعمل فى هذه الفترة فى إحدى الجامعات الخليجية ،وسمعت بأذنى فى بعض الأحيان ، أننا كمصريين ,ليس فقط السادات والحكومة ، جئنا نعمل لأننا لا نجد فى بلادنا لقمة العيش ،وأن هذه البلاد تأوينا وتطعمنا، ومن حسن الحظ ، أن هذا لم نسمع إلا عكسه فى الجامعة ، لكننا ،على أية حال لم نكن نعيش فى داخل قوقعة ، مما دفعنى ألا أكمل إعارتى وأستقيل ،ومع هذا ، فقد كانت – وما زالت – قناعتى بعروبة مصر لا يمنحها لها أحد ، فهى حقيقة تاريخية وجغرافية وثقافية ،ولا أحد يستطيع أن يسلبها منها ، حتى ولو كان زعيما مصريا أو كاتبا مرموقا أو مفكرا ذائع الصيت . كان السادات قد فعلها وقام بزيارة إسرائيل نوفمبر عام 1977 ، ممهدا بذلك لما هو أقسى وأفظع ، مما سوف يأتى ،بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ،ومن هنا فقد كان من الضرورى أن يتهيأ العقل المصرى لتقبل هذا وفهمه والاقتناع به ، بحيث لا يُكتفى بالخطاب السياسى ، وتبادل الزيارات ,وعقد الاتفاقات ، مما يشير إلى ضرورة أن يقوم مثقفون كبار بعملية الحرث وتهيئة التربة ، فكانت القامة الثقافية العليا ..توفيق الحكيم متأهبة لتأدية الدور ..توفيق الحكيم صاحب ( عودة الروح ) عقب ثورة الشعب المصرى 1919. ففى الثالث من مارس من عام 1978 فوجئ المصريون ، بل والعرب عموما، بمقال على صفحات جريدة الأهرام للكاتب الكبير ، بعنوان ( مصر والحياد ) قام على دعوى نصها : " لن تعرف مصر لها راحة ،ولن يتم لها استقرار ،ولن يشبع فيها جائع إلا عن طريق واحد ، يكفل لها بذل مالها لإطعام الجائعين والمحتاجين ،وتكريس جهدها للتقدم بالمتخلفين ،وتوجيه عنايتها إلى الارتقاء بالروح والعقل فى مناخ الحرية والأمن والطمأنينة ..وهذا لن يكون أبدا ما دامت الأموال والجهود تضيع بعيدا عن مطالب الشعب ، بدافع من مشكلات خارجية ودولية تغذيها الأطماع الداخلية والشخصية ..ما هو الطريق إذن إلى واحة الراحة والاستقرار وطعام المعدة والروح والعقل ؟ ..إن هذه الواحة المورقة المزهرة اسمها " الحياد". فهذا النص يحمل اتهاما خطيرا ، بأن ما بذلته مصر دفاعا عن القضايا العربية كان بدافع " الأطماع الداخلية والشخصية " ،وهو هنا بطبيعة الحال يستحيل أن يقصد الجماهير المصرية نفسها ، وإنما القيادة السياسية ،وبصفة خاصة عبد الناصر ، ومن قبله الملك فاروق ،وهو يستند فى ذلك إلى أن ما كان يبذل كان " بعيدا عن مطالب الشعب " ! كانت هذه الدعوة ، " حبة " أخرى فى مسبحة الحكيم ، بعد أن أطلق " حبة " سابقة سماها " عودة الوعى " ، مُدينا فيها عهد عبد الناصر ، الذى كثيرا ما أكرم الرجل فكان مما قال أنه تأثر به ، قراءته لعودة الروح لتوفيق الحكيم ،وأقال وزيرا مهما فى تاريخ التعليم فى مصر ، وهو إسماعيل القبانى ، لأنه فكر فى عزل توفيق الحكيم ، عندما كان مديرا لدار الكتب ! ويؤسفنى أن أقول أن الحكيم لم يكن صادقا فيما يقول ، فعلى الرغم من أن عمرى لم يكن يزد عن الحادية عشر عندما اندلعت حرب فلسطين الأولى عام 1948، لكنى كنت أشعر برغبة عارمة فى مواجهة الغزاة الصهاينة ،وكنت أرى الشعور نفسه لدى الكثرة الغالبة من فلاحى قريتى التى نشأت على ترابها " المرج " ،ومن المؤكد أن هذه القرية لم تكن فريدة فى موقفها ،وإلا ، فلماذا تنادى مئات الفدائيين المصريين إلى الدفاع عن فلسطين، قبل دخول الجيش الرسمى ؟ ولماذا تنادت جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين أيضا إلى المشاركة فى الدفاع عن الأرض الفلسطينية ؟ لقد نسى الحكيم ، أن أرض فلسطين تضم المسجد الأقصى ، الذى يقع ضمن مسئولية الجميع ، الدفاع عنه ،وحمايته ، من النازيين الجدد . ولم نكن نحن قد آذينا إسرائيل عام 1956 ،وإنما كنا نستعيد قطعة غالية من أرضنا هى قناة السويس ، فإذا بإسرائيل تقدم نفسها رأس حربة للقوى الغازية ، بريطانيا وفرنسا . لم تكن المسألة إذن نتيجة أطماع شخصية لزعيم أراد أن يؤكد زعامته ، ولا كانت "مغامرة " تغذيها وساوس لا تعبر عن الحقيقة..بل كانت المسألة تعبيرا عن رغبات الكثرة الغالبة فى مصر وفى الوطن العربى . لكن الحكيم لم يرد أن يقطع كل أواصر التى تربط مصر بالعرب ..إن كل ما يشغله هو " السياسة " و " الحرب " ، فهو لا يريد لمصر أن تشغل نفسها وتنغمس فى مشكلات العرب السياسية والعسكرية ، أما من الناحية " الحضارية "، فمصر مفتوحة الأبواب للعرب ،وهذا الذى يجب أن ينتظروه من مصر ..العطاء الحضارى " فكل جامعاتها ومدارسها وأساتذتها وعلمائها وأدبائها وفنانينها ومتاحفها وآثارها ومسارحها ومغانيها وجوها ونيلها وشواطئها وفنادقها ومصارفها وشعبها وعمالها وزرعها ..كل شئ فيها هو ملك للعرب وفى خدمتهم ..والحاجة الملحة للعرب والعروبة اليوم هى النهضة الحضارية التى تكفل لهم القوة الحقيقية ..وهذه ينبغى أن تكون رسالة مصر التى تلقى على عاتقها ويطالبونها بها ويعملون على أن تتفرغ لها مصر وتكرس كل جهودها من أجلها وحدها ..فلا تشغلها عنها مشاكل سياسية ومشاغل حربية ..". هنا مكمن خطأ التشخيص الذى بنى عليه الحكيم وجهة نظره ، حيث يفصل بين السياسى/ العسكرى وبين الحضارى ، مع أنه لو راجع نفسه وتأمل بعض الشئ فى الحضارات الكبرى ، فسوف يجد ألا انفصال بين الأمرين ، فحضارة الروم لم تقم إلا بتأسيس قوة عسكرية ضخمة ،وجهتها سياسة عبقرية ، فأرست حجر الأساس ، ووفرت المناخ الذى نشأت فيه الحضارة ،,التى قامت هى بدورها بتعزيز القوة السياسية والعسكرية ، حيث لابد من البصر بما بين هذه المتغيرات من ترابط التأثير والتأثر . وقل مثل هذا على ما كان من حضارة عربية وإسلامية ، فما كان لها أن تقوم ، لولا أن تمكن العرب من الخروج من دائرة الجزيرة العربية إلى الشام ومصر ،والمغرب وأرض الفرس ، وغير هذه وتلك من مناطق ، رفعت الرصيد السياسى والحربى ، فازدهرت الحضارة العربية الإسلامية .