مناضلون يساريون د. لويس عوض «1» تتلمذت بشغف وتلذذ علي يدي سلامة موسي لأنه كان يتحدث وبشكل مباشر عن الاشتراكية، ولأنه كان مثلي من دراويش مصر الفرعونية. د. لويس عوض «في حواره معي» هو واحد من أبناء الصعيد الجواني كما كان يحلو له أن يصف نفسه كلما لامه أحد علي عناده، ولد في قرية شارونة (مركز مغاغة في 20 ديسمبر 1914) وكان أبوه موظفا لدي الإدارة الإنجليزية في السودان، ولأن الأب في السودان فلم يجرؤ أحد علي تسمية الابن إلا عندما يقرر الأب، ولهذا قيد في سجل المواليد في 5 يناير 1915 وهذا تاريخ ميلاده الرسمي، خمس سنوات قضاها في السودان مع أبيه، لكن الأب كان يعاني من مصريته وهو يتوظف عند الاحتلال البريطاني بالسودان، فألقي باستقالته وعاد لمصر، ويتذكر لويس أيام طفولة غائمة في السودان «أقامت أسرتنا صداقات حميمة مع الأسر المصرية المسلمة، وفي أعيادنا وأعيادهم نتزاور ونتبادل هدايا من الكعك والغريبة والمنين فيما يشبه الطقوس» (لويس عوض - أوراق العمر - ص17) «وفي مدينة المنيا تستقر الأسرة فقد باع الأب كل ما يملك وباعت الأم مصاغها وبني منزلا متواضعا» ويتحدث لويس عوض ربما عن نفسه بالذات ولكنه ينسب الأمر إلي أسرته كلها فيقول «ونحن آل عوض لنا بعض الخصائص النفسية المشتركة منها أننا لا نكذب، ولا نعرف الكذب حتي للمجاملة أو لتجنب الحرج أو الخروج من المأزق، ومنها أننا عاطلون من الذكاء الاجتماعي، وهذا ما يجعلنا نعيش في عزلة نسبية مهما كانت دائرة معارفنا واسعة» وكان لويس كذلك بالفعل، وكان يبرر صراحته المباشرة وهجومه المباشر وعدم إتقانه فنون مثقفي زمانه في الالتواء والمجاملة والتبرير بأنها «عادة وراثية» لكن ذلك تسبب له في صدامات وهجمات ومعاناة بل وعذابات لم يكن مستعدا لها، وهذه الصراحة كانت مثارا لخلافات حتي مع والده فقد تقدم عريس لأخته مينرفا، وكان جلفا وجاهلا وابن بقال، ورفض الأب فليس لهذا الجلف ابن البقال أن يتزوج ابنة موظف سابق ومحترم، ولكن لويس وهو في سن السادسة عشرة يصرخ في والده «هذه أفكار دقة قديمة، وفوارق طبقية سخيفة، المهم أن تقرر مينرفا بنفسها ما تريد» ومن مدرسة الفرير إلي المنيا الابتدائية الأميرية إلي المنيا الثانوية وفيها سمع الكثير عن الاحتلال والإنجليز، وما أن تلقن بعض دروس الكيمياء حتي أقام في المنزل معملا كيماويا صغيرا مع أخيه فيكتور ليصنعا بارودا ومتفجرات لقتل الإنجليز، لكنهما لم يقتلا أحدا، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن في المنيا أي إنجليز. الأب كان شخصية هادئة، يشرب كل يوم زجاجة نبيذ كاملة ويستمتع بإدخال ابنيه في امتحانات يومية إما لحفظ قصائد من الشعر الإنجليزي أو العربي أو حتي آيات من القرآن الكريم.. هو يشرب ويستمع ويصحح ثم يعطي الفائز قرشا، ويتمشي لويس بالجلباب والشبشب ليشتري جرنال البلاغ من محطة السكة الحديد بهذا القرش. ولأن أباه قال له يوما إن الشيوعية تعني أن المال يكون مملوكا للجميع علي قدم المساواة، فقد أثار ذلك خياله بحثا عنها، لكنه ينتظر حتي كان في السنة الثالثة بكلية الآداب حيث أعاره أستاذه يرين ديفيز كتاب رأس المال «فقرأت أجزاء كبيرة منه وأيضا عدة كتب لباكونيه وكروبنكين.. وكان أستاذي برين ديفيز فابيا»، ولعل لويس قد ظل متأثرا به طوال حياته، وفي الجامعة كان ثمة أستاذ شيوعي متحمس هو الدكتور هولواي «وتحدث معي كثيرا عن المادية الجدلية وأعارني عديدا من الكتب مثل: دياليكنيك الطبيعة وضد دوهرنج وعشرة أيام هزت العالم، وشرح لي أسباب الصراع بين ستالين وتروتسكي ولا أغالي إذا قلت إن هولواي كان من أعظم المؤثرات علي فكري وثقافتي في هذه الفترة الخطيرة من نموي النفسي والثقافي حين سقطت أمامي كل التخوم بين الثقافات والحضارات وكل الحواجز بين الأزمنة والأمكنة» لكن لويس وبرغم إعجابه بالفكر الماركسي وبأستاذه هولواي تعلق أيضا بأستاذ آخر هو البروفسور سكيف «وكان أستاذي سكيف يمقت الاشتراكية بل يمقت كل مذهب يقيد فردية الفرد وحريته في الاختيار الدائم». وأعجب لويس أيضا «بفردية الفرد» وحقه في التحليق الدائم بين الأفكار والآراء المختلفة فظل علي الدوام متمردا يقبل بالاشتراكية وحتي بالماركسية ويرفض التقيد بالولاء الفكري لها بل وينتقد أحيانا بعض مفرداتها وأساليب تطبيقها، ويمني نفسه بأن يكون ليبراليا لكنه لا يلبث أن يتمرد علي الليبرالية المطلقة، وتتضاعف معاناة لويس عوض من هذا الموقف المركب بسبب من صراحته وصرامته في عرض أفكاره دون تردد ودون حرص، ويضاف إلي هذه الصراحة صراحته في ضرورة الانتماء المصري الفرعوني، وضرورة دراسة الحقبة القبطية في تاريخ مصر، فتعرض لويس لهجمات عديدة وفجة ويقول «لكن أكثر ما يوجعني هو أن ينسب هؤلاء المهاجمون لي أفكاري إلي قبطيتي وليس إلي مصريتي أو حريتي في التفكير»، وفيما كان يعاني من مزيج فكري معقد ماركسي ليبرالي فرعوني قبطي يأبي إلا أن يزيد أموره تعقيدا فيرفض فكرة العروبة في زمن ناصري كان يضحي حتي باسم مصر في سبيل إعلاء نغمة العروبة واختار لويس عوض أن يقول وبأعلي صوت إذا كنتم تريدون «وحدة» فلتكن وحدة مع السودان، وعرضه ذلك إلي هجمات قاسية مليئة بالبذاءة بعضها يتهمه بأنه مسيحي متطرف وآخر يعايره بأنه «أحول» وثالث يتهمه بأنه «عميل» وتتوالي الضربات ليس من كتاب مهووسين بالولاء للنظام فقط وإنما من النظام نفسه فقد فصل من الجامعة بتهمة الشيوعية (1954) ثم سجن 1959 بتهمة رفض العروبة والقول بفرعونية مصر، وفي السجن تعرض لتعذيب وحشي لم ينسه طوال حياته. وفي آخر حوار طويل معه (1982) قال «كنت من أشد المؤمنين بوحدة وادي النيل ربما بسبب سنوات طفولتي هناك وربما بسبب رفضي لفرض فكرة العروبة علينا فرضا، حتي كان انفصال سوريا عن دولة الوحدة فأصبحت أرفض شكل الوحدة وأكتفي بالحلم بأنواع من التقارب الأقل مجازفة لكنني وحتي أوائل الستينيات ظللت أحلم بمصر قائدة لكيان سياسي اقتصادي كونفيدرالي اسمه اتحاد جمهوريات وادي النيل أما الآن فأنا لا أعرف ما أريد». ونترك لويس عوض في حيرته لنعود إليه في الكتابة القادمة.