لا تعرف الأدبيات الإسلامية مصطلح (الإصلاح الدينى) وأغلب الظن أن المقصود به (التجديد الدينى) الذى هو حالة دائمة ومستمرة بنص حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. مصطلح الإصلاح الدينى إذن مصطلح وافد من الثقافة الغربية التى أنتجته لحاجتها الحقيقية إليه، ونعلم جميعًا أن رائد المصطلح والتجربة كلها هو الراهب مارتن لوثر (1483- 1546) مؤسس المذهب البروتستانتي الذي دعا هو والمصلحون الآخرون من رجال الدين المسيحى إلى الخلق القويم، وانتقدوا رجال الكنيسة لانصرافهم لجمع الثروة وإلى الحياة اللاهية بعد اعتراضه على صكوك الغفران، ونشر في عام 1517 رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من (العقاب الزمني للخطيئة)، ورفض التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين بناء على طلب البابا ليون العاشر عام 1520، وطلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة ممثلة بالإمبراطور شارل الخامس، وأصر على موقفه قائلاً إن البابا نفسه لا يستطيع غفران الذنوب والله وحده قادر على غفران ذنوب البشر، وأن صكوك الغفران بدعة بل حتى البابوية نفسها اعتبرها مارتن لوثر بدعة، ما أدى به للنفي والحرمان الكنسي وإدانته مع كتاباته بوصفها مهرطقة كنسيًا وخارجة عن القوانين المرعية في الإمبراطورية. سيأتى بعده بقرون مفكر أوروبى مسلم اسمه (على عزت بيجوفيتش) يذكرنا أن رسول الله عيسى عليه السلام أتى بالمسيحية وأن بولس الرسول أتى بالكنيسة ومن ثم بالبابوية.. نيتشة الفيلسوف الألمانى الشهير(1844-1900م) له كلام قريب من هذا المعنى.. كل هذه الحكايات لا علاقة للإسلام بها وفى أحلك أوقات التراجع الحضارى عن الدين لم يصل الأمر إلى ما وصلت إليه أوروبا قبل مارتن لوثر وحركته الإصلاحية. تاريخيًا حين يذكر (التجديد الدينى) تأتى على الفور إلى الوعى حركة جمال الدين الأفغانى وصاحبه محمد عبده ومن تلاهما من العلماء والمفكرين وحتى السياسيين (سعد زغلول كان يعتبر نفسه تلميذًا لموقظ الشرق جمال الدين كما كان يسميه).. الذين بدأوا ما لم يكتمل - حتى الآن - من تجديد (أمين) لمفاهيم وتطبيقات صحيح الدين ونصوصه.. ولم يزايد عليهم أحد فى هذه (الأمانة) التى صاحبتهم في كل آرائهم الواصلة بين الدين والحياة.. رغم المعوقات الضخمة (سياسيًا بالأساس) التي واجهت أفكارهم ومشروعهم الكبير في النهوض بالأمة.
ما نسمعه هذه الأيام عن الإصلاح الديني والثورة الدينية لا علاقة له بالتجديد الذي تعرفه الأمة تاريخيًا وعلميًا هو فقط استنساخ ماسخ لتجربة الإصلاح الديني في أوروبا.. والأهم هو حالة مخاصمة لصحيح الدين والتجربة التاريخية للأمة في التكوين الحضاري، والنماذج التي تتصايح في الفترة الأخيرة بأحاديث حول (الدين) لا تريد إعمال مبدأ التجديد ولا علاقة لها بأدواته ووسائله.. للتواضع الشديد في قدراتهم العقلية والعلمية والفكرية من جهة ولأنهم يكذبون على أنفسهم وعلى الناس من حولهم.. فقصتهم الأصلية مع (حركية الإصلاح الاجتماعى والسياسى بالمفاهيم الإسلامية) والتيار الذى يحمل هذه المفاهيم الحركية.. هم خصوم لهذه المفاهيم ولا يريدونها ولا يحتملون رؤيتها فى واقع الناس لأنهم لا يشعرون بها ولم تتحرك فى وعيهم وإدراكهم كمفاهيم كبرى لإقامة الحياة الإنسانية بتمامها وكمالها كما يريدها الإسلام.. هم مسلوبون تمامًا فى إطار مفاهيم أخرى وتجارب أخرى.. وسواء كانوا يؤمنون بهذه المفاهيم الأخرى حقيقة أم زيفًا.. فهذا شىء لا يعنى الناس العاديين الطيبين البسطاء الذين يؤمنون أن الإيمان والحياة لا يفترقان.. كما قال محمد إقبال فى قصيدته التى غنتها السيدة أم كلثوم. إذا الإيمان ضاع فلا أمان ***ولا دنيا لمن لم يحيي دينا ومن رضي الحياة بغير دين*** فقد جعل الفناء له قرينا... (أهل الفناء يا ليل) يكذبون علينا بمصطلحات الإصلاح الدينى والثورة الدينية.. وأكررلا علاقة لنا بما استقر فى أعماق نفوسهم ووعيهم عن مرادهم بهذه التعبيرات (الأنيقة) المنقولة مسخًا وشوها من تجربة مارتن لوثر الذى هاله وراعه أمر المسيحية فى أوروبا. حقيقة الأمر عند المجددين الأمناء أن لديهم مشروعا إصلاحيا (سياسيا وفكريا واجتماعيا) لأوطانهم التى أنهكها احتلال الأجنبى الذى خرج وترك وراءه استبداد الدولة الوطنية الحديثة (العسكرية).. مشروعهم هذا موفور الصلة بالدين نصوصًا وتجربة وموفور الصلة بالناس إيمانًا وفهمًا وأن اعتراه ما يعترى المفاهيم والأفكار من جمود فى الفهم وتراخى فى التطبيق.. هم يؤمنون أن الإسلام في ذاته وفى العقل والوجدان الجمعي للمسلمين دين ودنيا.. إيمان وسياسة.. والصلة بينهما عرفت عبر التاريخ موجات مد وجزر تتصل بطبيعة الشرط التاريخي داخل التجربة البشرية التى يتحمل كل نتائجها من عاشها ومارسها.. ولا يحملها أحد غيرهم.
وتبعا لاختلاف هذا الشرط عرف تيار الإصلاح الحضارى ما طرحه رواد التجديد الديني من مطلع القرن الماضي كالطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا والبنا وأمين الخولى والمراغى وشلتوت ومحمد ومحمود شاكر وطنطاوى جوهرى وأحمد أمين وقطب والعقاد.
المشكلة دائما كانت فى العلاقة بين (التجديد)الديني والإصلاح السياسي.. والتى وقفت له سلطة الاحتلال وسلطة الدولة الوطنية الحديثة بالمرصاد ورفضته رفضا عنيفا.. ورفض الاحتلال معروف ومفهوم.. أما رفض الدولة الوطنية هو الذى ما زال يشكل لغزًا لغيزًا حتى الآن.. لأنه لم يكن رفضًا عنيفًا فقط ولكن أيضًا كان رفضًا فقيرًا فى محتواه البديل.. ومعروف أن الدولة العربية الحديثة بعد الاحتلال لم تقدم مشروعًا إصلاحيًا له قوام فكرى وسياسى واجتماعى صلب.. وفشلت على كل ألوان الفشل وجرجرت مجتمعاتها التى اغتصبت إرادتها اغتصابًا.. جرجرتها فى مستنقعات الذل والهزيمة والتخلف حتى أصبح (الإنسان العربى) أحط صورة للإنسان/المواطن.. وإن احتفظ بالسمات والصفات الأخلاقية للإنسان/الفطرى.. وهو ما نراه حين يخرج من وطنه.. ولا أدرى كيف يحتار السائلون فى البحث عن معرفة سبب تفوقه خارج وطنه.. ولمزيد من العبط والاستهبال يستمر السؤال!!.. وكأنه لا وجود للاستبداد والفساد والقهر والتسلط والخواء العام الذى يرفرف على رءوس الجميع.. خواء متعدد الأبعاد.. السياسى والفكرى والفنى والاجتماعى والتعليمى وخواء متوالد ومستمر على نحو عجيب.
الاكتفاء بالدعوة الصماء المملة إلى (الإصلاح الدينى) هو محض جهداً ضائعاً ضائعا ضائعا.. مهما نراه ونعيشه من تردي (الإصلاح السياسى) واعتبار معالجة الواقع القائم والنهوض به تتأتى فقط من تصحيح ما يحمله الناس من أفكار خاطئة ومغلوطة عن الإسلام.. وليس من ارتقاء بشروط حياتهم وتوفير الفرص الضرورية لضمان حقوقهم وحاجاتهم المادية والروحية وما يلى ذلك من تطور أفكارهم وإبداعاتهم وعطاءاتهم المتجددة.. كل المجددين نادوا بالحريات المدنية وربطوا تقدم المجتمع بالسير وفق المنهج المدنى للحقوق والحريات ولم يجدوا فوارق كبيرة بين الإسلام ومبادئ القانون التي ترتكز عليها المجتمعات المتقدمة.. الشيخ الإمام (محمد عبده) أرجع فساد الأوضاع السياسية إلى سبب رئيس هو فساد تربية الحاكم والمحكوم معتبرًا الخلل في السياسة أصل كل فساد، وقال لأحد أصدقائه: فإن شئت القول أن السياسة أصل كل فساد.. تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين.. رشيد رضا تلميذه الأثير كان أكثر وضوحًا وقال: الديمقراطية والجمعيات السياسية والدينية والخيرية والعلمية هي السبب الأول والعلة الأولى لكل ارتقاء.. بها صلحت العقائد والأخلاق في أوروبا.. وبها صلحت الحكومات وبها عزت وعظمت قوتها وبها فاضت ينابيع ثروتها وبها انتشرت ثقافتها وحضارتها.. ولعل الربط الذى ذكره بين الارتقاء الحضارى وتكوين الجمعيات كما كان فى أوروبا كان دافعًا لتلميذه النجيب حسن البنا لمزيد من الفهم والتطبيق فى هذا الاتجاه.. وكانت هذه الفترة الليبرالية أزهى فترات (التجديد الديني) رغم الاحتلال الأجنبى!! وكانت أجواء الحرية الفكرية والسياسية هي التي ضمنت تفتح النقد والإبداع وسمحت للمجتهدين بطرح أروع الاجتهادات والتفسيرات لكثير من النصوص.. وفي المقابل كان تراجع الحريات وعموم الاستبداد في (سلطانات) الحكم العربي عاملا حاسما في قطع مشروع (التجديد الديني) وإهمال ما كتبه رجالاته الكبار ومبدعوه.. ليس هذا فقط بل وساعد على ظهور شخصيات (طغيانية) داخل أجواء التيار السياسي الإسلامي.. عوقت وشوهت كل محاولات التجديد وفى الفم من ذلك (ماء كثير). فى فمي ماء وهل** ينطق من في فيه ماء؟ على الأرجح وقت النطق لم يأت بعد.. صونا وحفظا ووفاء.