تشعر أن الدولة تصنع أزمات أكبر بدلاً من أن تعمل على استئصال كل الأسباب المؤدية إلى حالة الفوضى وانتشار السلاح بكل أنواعه على أرض سيناء بينما تخوض حربها على "الإرهاب" هناك، والتي اشتعلت جذوتها منذ أكثر من 20شهرًا، في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وإن كانت قد بدأت مواجهاتها حتى إبان وجوده بالسلطة، لكن إبعاده عن الحكم كان سببًا في تصاعد العمليات "الإرهابية" التي يقودها تنظيم "بيت المقدس"، والذي تحول لاحقًا إلى "ولاية سيناء"، بعد إعلان مبايعته لتنظيم الدولة "داعش"، وأصبحت المواجهات مفتوحة بين الطرفين، وارتفعت معها أعداد الشهداء في صفوف قوات الجيش والشرطة، وقد دفع بعض السيناويين ثمن تعاونهم مع الدولة ضد الإرهابيين بتصفيتهم ونحر رؤوسهم، وتكرر ذلك مرارًا بغرض بث الرعب في أي شخص يمد الجيش والشرطة بمعلومات عن المسلحين وأماكن اختبائهم، في الوقت الذي يعاني فيه السيناويون أوضاعًا إنسانية صعبة مع استمرار حظر التجول لساعات طويلة، تتحول إلى مأساة إذا تعرض شخص لأزمة صحية قد تستدعي نقله على عجل إلى المستشفى، وجاء إعلان قبيلة "الترابين" مؤخرًا الانضمام إلى المواجهات ضد المسلحين، والذي دشنته باستعراض قوة لأفراد القبيلة بالأسلحة الثقيلة في الأسبوع الماضي، ووجهت من خلاله رسالة شديدة اللهجة إلى "الإرهابيين"، ليثير مخاوف حقيقية لدى الكثيرين إزاء تلك الخطوة، وإن كان هذا لاينفي أن دافعها الأساسي هو الشعور الوطني لدى من اتخذوها، خاصة وأن السيناويين باتوا هدفًا لعليات القتل والتصفية، لكن هذا لايبرر تمامًا القبول بفكرة تشكيل "ميلشيات" تتألف من مسلحين قبليين على غرار الميليشيات التي شهدها العراق، والتي لم تحقق الهدف من تأسيسها، وكانت سببًا في تفاقم أزماته، بعد أن باتت هي نفسها صانعة للأزمات فيما بعد، وكانت هناك مطالبات بإدماجها في الجيش والشرطة العراقيين، وهو السبب وراء تنامي موجات الاعتراض حتى بين الخبراء الاستراتيجيين لاستنساخ تلك الفكرة على أرض سيناء، خوفًا من تداعيات السماح بتسليح القبائل في سيناء على الأمن القومي، لأننا إذا كنا نشتكي من عدم فرض الدولة لسيطرتها على الوضع هناك فسيزاد الأمر صعوبة حال تقنين فكرة الاعتماد على القبائل في مواجهة "الإرهابيين"، ولأن ذلك يحمل رسالة تسيء إلى الدولة أكثر مما تفيدها بأنها ما لجأت إلى هذه الخطوة إلا بعد أن فشلت في تحقيق أهداف التي تخوضها ووضعها في مأزق بالغ، خاصة وأنه لم يعد هناك مقبولاً التحجج بالتزامات اتفاقية السلام مع إسرائيل التي تحجّم انتشار القوات المسلحة المصرية بالمنطقة، بعد أن حصلت القاهرة على موافقة تل أبيب في الدفع بقوات إضافية على الأرض ونشر الآليات العسكرية، فضلاً عن الدعم الأمريكي ممثلاً في إرسال طائرات "الآباتشي" لمطاردة الإرهابيين في الدروب الصحراوية التي يصعب على القوات البرية الوصول إليها، ليس من مصلحة "الدولة المصرية" أن تسمح بفكرة تجييش القبائل في سيناء، لأن السيناريوهات الكارثية التي شهدتها دول عدة مثل العراق وباكستان والسودان لاتزال ماثلة أمامنا، بعد أن سقط خلالها قتلى بمئات الآلاف، لكن هذا لايجعلنا نرفض إعلان القبائل السيناوية رفع الغطاء عن أبنائها المنتمين إلى تنظيم "بيت المقدس"، لأنه يعني أنها لن تقبل بوجود هؤلاء بينهم والتستر عليهم في المستقبل، وهذا سيتطلب من كل قبيلة أن "تبدأ بنفسها تطهير نفسها"، في المقابل يتعين على الدولة أن تعمل على كسب السيناويين لأ أن تدفعهم للانضمام إلى صفوف "الإرهابيين" من خلال العمل على تحسين أوضاعهم المعيشية، والتعامل معهم بصورة أكثر إنسانية، بعد أن تعددت الشكاوى من التعامل اللاإنساني معهم في نقاط التفتيش والأكمنة، فضلاً عن أنهم يجدون أنفسهم مضطرين لأن يُحبسوا داخل منازلهم لساعات طويلة، وهذا أسوأ أنواع العقاب الإنساني عندما يجد المرء نفسه محبوسًا داخل بيته لايقدر حتى على أن يطل برأسه منه، نحن بحاجة إلى قرارات جريئة بشأن سيناء بهدف تفكيك الأزمات المفخخة هناك، والتي كانت سببًا أساسيًا في حدوث قطيعة بين كثير من السيناويين والدولة، نتيجة الشعور بالتهميش، والنظر إليهم على أنهم أفراد خارج القانون يعملون في تجارة المخدرات والسلاح، من المؤسف أن نجد بعض السيناويين يتذكر فترة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء وكيف أن العدو كان يتعامل معهم بصورة أفضل مما يحظون بها من بني وطنهم الآن، حتى إن بعضهم كان يتم نقله بالطائرة للعلاج في مستشفيات تل أبيب، ومع ذلك لاينكر أحد الدور الوطني لقبائل سيناء في المقاومة وإمداد الجيش المصري بالمعلومات والتي مهدت للنصر في حرب أكتوبر، إذا كانت هناك رغبة حقيقية في عدم استعداء السيناويين استمعوا إلى مطالبهم، لأنهم خير ضامن للحفاظ على هيبة الدولة في هذه المنطقة الاستراتيجية، وقبول أعداد منهم في الكليات العسكرية والشرطة، وعدم الاستمرار في تهميشهم كما هو حاصل الآن، وقتها ستكسب الدولة ولن تخسر كما تخسر الآن بسبب السياسات التي خلقت حالة من الاحتقان وأعطت السيناويين شعورًا بأنهم مواطنون درجة ثانية في أحسن الأحوال.