مما حبا الله به هذا الشعب أننا لا نحتاج في غربتنا لسؤال ولا كثير مجهود ليتعرف به الآخرون على هويتنا كمصريين، وهذا ما جري معي حينما قابلت هذا الرجل العربي -الذي لا أعرفه- والذي بدأني مباشرة بسؤالي عن آخر تطورات الثورة لدينا، فأجبته إجابة مقتضبة مشفوعة بدعاء أن ييسر الله الخير لمصر ولسائر أوطاننا، وظننت إجابتي كافية لإنهاء الحوار، لكنه فاجأني بتعليقه الحماسي عن ثورة مصر هذا المارد الذي طال انتظاره والذي حبس طويلا قسرا وقهرا وآن له الآوان للخروج من قمقمه، وحديثه عن الأيادي الخفية التى تبذل كل جهد فى كواليس الأحداث لتعطيل عجلة ثورة مصر وعرقلتها، كان يتحدث بحماسة وصدق وكأنما يتحدث عن ثورة هو قائدها أو كأنما يتحدث عن ثورة حررته هو نفسه، ثم أنهي كلامه –وقد شعر بتأثري- بكلمة كانت حروفها تنساب الواحد تلو الآخر من أعماق قلبه: أنت يا ولدي لا تعلم من هي مصر. غادرته وبقيت كلمته تتردد داخلي كما يتردد الصدي .. أنت لا تعلم من هي مصر .. لا تعلم من هي مصر. بدت لى هذه الكلمة هذه المرة غير ما تعودنا سماعه طوال أعمارنا من العبارات .. شيء ما جعل لتلك الكلمة سحرا، وجمالا، وصدقا. لا أدري هل السر هو توقيت هذا الكلام؟ أم تلك الحماسة التى يتكلم بها الرجل ونبرة الصدق فى كلامه؟ أم فى خروج هذا الكلام شخص غير مصري؟ لا أدري تحديدا، لكنها ظلت تتردد فى نفسي، وتثير عاصفة من التساؤلات داخلي.. ويبدو أنني بالفعل لا أعلم من هي مصر، وأني لى أن أعرفها ولم يقدر لي -ولا لأحد من أبناء جيلي- أن يري وجهها الحقيقي منذ ولد، وهذا الوجه الذي حسبته وحسبه جيلي بأكمله وجهها الحقيقي كشفت لنا الثورة أنه قناع أخفوا به وجه مصر الحقيقي عنا نحن أبناءها. مصر التى أرونا إياها عجوزا معتلة ضعيفة، منهكة بالسعي وراء لقمة العيش، مشغولة بتدبير ثمن دواء الأمراض التى نزلت بأبنائها وتكاد تفتك بهم. مصر التى فرضوها علينا عقودا جافة قاسية لا مكان فيها لحالم، ولا متسع فيها لطموح. فجاءت الثورة لتكشف كل هذا الزيف كما تكشف الشمس عن وجه السماء الحقيقي، وها هي بشائر عودة وجه مصر الحقيقي فى الرجوع، وإليكم بعض هذه البشائر: مقال جميل لكاتب عربي جميل اسمه جميل الفارسي بعنوان أنصفوا مصر: ومما ذكره فيه، أن مصر التى لم تنعم تلك الأجيال بالتعرف إليها : كانت مثل الرجل الكبير تنفق بسخاء وبلا امتنان،وتقدم التضحيات المتوالية دون انتظار للشكر. مصر التى علمت بجامعاتها مليون طالب عربي بالمجان، مصر التى حفظت لغة القرآن بمدرسيها الذين ملأوا العالم العربي وعيا، وبرموزها الثقافية والقومية والإسلامية، مصر الريادة، وقلب العروبة والإسلام النابض، والتى إذا اعتلت فسيزحف المرض إلى سائر جسد الأمة تباعا، وإذا صحت دبت الحيوية فى أطرافها جميعا من المحيط إلى الخليج. ثم تلا هذا المقال عندي ما ورد في حوار وضاح خنفر -مدير قناة الجزيرة السابق وأكثر الأشخاص قوة وتأثيراً في العالم وفقاً لمجلة فوربس (2009)- وهو يتحدث عن الثورات العربية يعلق قائلا: "عندما زرت الصومال في العيد الماضي وجدت الصوماليين يتحدثون عن الثورة المصرية بصفتها الأمل الأول والأخير لإنقاذهم ! وحينما ذهبت إلى غزة وجدتهم لا ينفكون عن الحديث عن ثورة مصر والتى ستكون المنقذ والمخلص لهم مما هم فيه ! وفي دارفور يعتبر السكان أن سقوط مبارك سيكون طوق النجاة لإنقاذهم من أوضاعهم المأساوية ! ثم ختم كلامه قائلا: يجب أن يعلم المصريون بأن الأمة العربية أصبحت أمانة في أعناقهم". هو الذي قال ذلك ولست أنا أو أحد الحالمين بمجد أوطانهم، مصر الحقيقية ليست ضعيفة ولا فقيرة ولا صغيرة، وذكرني ذلك بما إحدي المذيعات العربيات وهي تزف خبر رحيل مبارك: "هُزم الفرعون الأخير على أيدي شعبه بعد أن أذل بلاده طويلا، وأطفأ نارا كانت تشتعل فى عروقه عروبة ونضالا، وبعد أن عزل مصر عن محيطها العربي، أقسم المصريون على ألا يبقي بأرض مصر أحد محا تاريخها ودفع شعبها إلى التسول وصغر دورها من دولة عربية كبيرة إلى معبر مسدود" واستدعيت ذكريات ما صاحب ثورة مصر من اهتمام عالمي بها وبتداعياتها على العالم أجمع مما يعكس حجم مصر الحقيقي. ومرت الأيام وثورة مصر –وإن كانت تبدو متعثرة فى بعض خطاها- إلا أنها كل يوم تكسب أرضا جديدة ولا ينكر ذلك منصف، حتى جاء الأسبوع الماضي وتابع العالم كله أكبر مكسب سياسي تحققه المقاومة الفلسطينية الصامدة بإرغام أنف بني صهيون في صفقة تبادل الأسري، وأدهشني وأنا أتابع هذا الحدث الكبير وأسعدني أن تكون الكلمة الأكثر تداولا على ألسنة المحررين -بعد شكر الله تعالي- هي مصر ودورها فى تحقيق هذا النصر المبين. وطغى على فرحتي كعربي مسلم برؤية شمل الأسري وهو يلم بأحبابهم، ورؤية ثمرة نضال شعب حبيب أمام عيني، فرحتي كمصري -والذي كأنما ولد من جديد- وهو يسمع كلمات الأسري المحررين وهم يعبرون بعفوية صادقة عن مشاعرهم، وهز قلبي ما قاله الأسير المحرر -بعد 450 سنة حكما بالسجن- يحيي السنوار فى المؤتمر الجماهيري الحاشد الذي حضره هنية وقادة الفصائل الفلسطينية وعشرات الآلاف من أبناء فلسطين : شكر خاص لإخواننا فى مصر .. مصر التى عرفناها دوما .. وتمنينا أن تكون دوما في مقام الرائدة .. نحن كفلسطينيين نعشق مصر، نعشق مصر الثورة ونعشق مصر الإباء ونعشق مصر التي تتقدم لأخذ دورها في قيادة الأمة العربية لنيل حقوقها. وتلاه حوار أحلام التميمي الأسيرة -صاحبة الرقم القياسي فى أحكام المؤبد الصادرة ضدها 16 مؤبد- وهي فى طريقها للخروج من المعتقل: نشكر لمصر دورها والذي لولاه بعد فضل الله لما رأينا النور ثانية. ثم تلك التحية العزيزة من المناضل خالد مشعل إلى مصر: تحيا مصر .. تحيا مصر قيادة وشعبا .. أصدقكم القول: يبدو أننا بالفعل لا نعلم من هي مصر التى تحدث عنها هذا العجوز الطيب. ألا سامح الله من سرق أعمارنا وأضاع هويتنا ووأد أحلامنا. هؤلاء الذين شغلونا بأنفسنا وجعلونا نعيش على هامش الحياة، وأقصي أمانينا أن نحصل لقمة العيش وأن نكافح أوجاعنا فى صمت، وأن نجد ظلا لأي جدار يتسع لمشينا جميعا، وأن نحمد الله فى آخر اليوم أنهم سمحوا لنا أن نعيش. الحمد لله ذهب الظلمة، ونجحت الثورة وبقيت لنا مصر الحقيقية، ليختبر جيلنا هذا الشعور الجديد، شعور أننا ننتمي لبلد له وزن، ولوطن لديه كل مقومات الريادة والقيادة بعد أن عشنا عقودا يُغيب عنا ذلك. متفائل أنا إذ أري –رغم تعثر الخطى- بشائر عودة الأمور إلى نصابها، ورجوع مصر إلى مكانتها، مصر التى ما كان لأحد أن يفنيها وقد خلدها ربنا عز وجل فى كتابه، مصر التى سرقت دهرا، والتى لو قدر لها أن تكون بين أيدي أبنائها الذين يخافون عليها لتغير تاريخ العالم الحديث وربما جغرافيته كذلك. والحمد لله يا مصر أن بدأت فى العودة شمسك الذهب .. [email protected]