يترقب العالم هذه الأيام المحاولات المكثفة التي يبذلها النظام العربي لترويض واستيعاب حركة حماس قبل تسلمها السلطة في الضفة والقطاع ، وجهوده الحثيثة لجر الحركة بكل الطرق إلى مربعه وتبني مواقفه المهادنة والمنبطحة تجاه إسرائيل .. والغريب أنه رغم فشل هذه السياسات في الوصول إلى تسوية عادلة للمشكلة الفلسطينية ووصولها إلى طريق مسدود ، أمام تعنت الطرف الإسرائيلي بعد ربع قرن من انتهاج سياسة السلام ، فان النظام العربي ما زال يصر عليها بل ويريد من حماس السير في الطريق نفسه ، غافلا عن الفشل الذريع لتجاربه السابقة ، ومتغافلا عن معطيات الواقع الذي افرز ظروفا جديدة تحتم تعديل المسار . ولعل حماس تدرك جيدا انه يتعين عليها قبل التفاوض مع إسرائيل ، أن تعمل على استعادة الثوابت الوطنية التي أهدرها النظام العربي .. ذلك النظام الذي طالما فرط في هذه الثوابت وقايض عليها لربع قرن نظير تأمين بقاءه في الحكم .. والمفارقة الصارخة هنا تكمن في تحول هذه الثوابت إلى نقيضها على يد النظام .. فلم تعد المطالبة بالقدس وحدود 67 وعودة اللاجئين والإفراج عن المعتقلين لها الأولوية في الأجندة العربية حاليا .. بل احتلت مكانها بنود أخرى يطالب بها النظام العربي نيابة عن القوى الدولية ، مثل الاعتراف بإسرائيل ونبذ المقاومة وإلقاء السلاح من طرف واحد ودون مقابل !! .. وهكذا تحول دور النظام العربي من طرف أساسي في الصراع ، إلى مجرد وسيط بين طرفين متصارعين !! . ليس عندي شك في رفض حماس كل الضغوط والاملاءات العربية الجارية لترويضها ، فالحركة التي تحدت إسرائيل عسكريا وباتت شوكة في حلقها ، ودفعت من دماء شبابها وشيوخها ثمنا باهظا لتحرير شعبها ، وصبرت على قمع ومضايقات السلطة الفلسطينية ورفضت رفع السلاح في وجه شقيق الوطن .. لن تفلح معها محاولات علوج النظام العربي الذين لا يفهمون لغة المقاومة والنضال ، ولا يعرفون سوى الاستسلام والانبطاح أمام الخارج كما لا يجيدون سوى القمع والقهر للقوى الوطنية في الداخل .. والحقيقة ان النظام العربي لا يهمه من قريب أو بعيد حلا عادلا للقضية الفلسطينية ، التي طالما استغلها لتحقيق اغراضه الشخصية .. بل أن مواقف النظام العربي من الأزمات الدولية وبصفة خاصة قضية فلسطين ، تتقاطع تماما مع مواقف رجل الشارع البسيط وتتناقض معه على طول الخط . فالناس في بلادنا يكرهون إسرائيل ويشعرون بالحنق والغضب تجاه اعتداءاتها الوحشية على أشقائنا الفلسطينيين ، ويقفون قلبا وقالبا مع المقاومة ويشجعون عملياتها البطولية المشروعة . فيما تصب مواقف النظام في الاتجاه المعاكس ، فالنظام يرى ان السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي ، وحصر كل جهوده في مباشرة دور الوساطة بين الفريقين المتنازعين بحياد تام وموضوعية كاملة (!!) ولكنه في الحقيقة لا يفعل شيئا سوى الضغط على الطرف الفلسطيني المعتدى عليه وتمرير املاءات الطرف الإسرائيلي الجاني والمعتدي . وهكذا صارت القضية في نظره نزاعا بين طرفين متساويين ، وليس اغتصابا لحقوق شقيق وانتهاكا لحرماته وسفكا لدمه وتهديدا لأمنه القومي . والادهى من ذلك هو مسارعة النظام إلى إدانة عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال ووصمها بالإرهاب ، في تبني سافر لحجج ومواقف الإسرائيليين ، حيث لم نعد نرى فرقا يذكر بين تصريحات شارون وغلاة الصهاينة ، وتصريحات النظام اثر كل عملية للمقاومة الفلسطينية . والأخطر من ذلك كله ، هو دخول النظام والصهاينة في جبهة أمنية وسياسية واحدة ضد ما يسمى بالتطرف الإسلامي باعتباره عدوا مشتركا للطرفين الحليفين !!. وهكذا بتنا في زمن لم يعد مستغربا فيه دخول نظام عربي في تحالف وثيق مع الصهاينة (الأصدقاء) ضد الإسلاميين (الأعداء) .. أما بخصوص أميركا ، فالناس والنظام يقفان منها على طرفي نقيض . الناس يمقتون غطرسة أميركا ويعادون سياستها وهيمنتها ويرفضون تدخلها المستمر في شؤون بلادنا . والناس مع المقاومة في العراق ويتمنون هزيمة أميركا ويريدون خروجها من المنطقة العربية برمتها . أما النظام فمع بقائها واستمرار وجودها لدرجة أنه يخشى هزيمتها وانسحابها كما حدث لها في الصومال (حسب تصريح أخير للنظام مبررا ذلك بالخوف من اندلاع الفوضى!) . وأصبح أعداء أميركا هم أعداء النظام ، وبات المقاومين لها إرهابيون يستحقون القتل والتعذيب (لاحظ الأوامر الموجهة لأجهزة الأمن والاستخبارات لتكثيف التعاون مع الأمريكان والقيام بالتعذيب نيابة عنهم ، في انعطاف حاد وخطير لمفهوم الأمن القومي) . والنظام يقول بصراحة أنه حليف استراتيجي لأميركا ولا يجد غضاضة في تأكيد الروابط الخاصة بها ، والتحالف هنا يمكن تشخيصه وتفسيره بالاتي : "قوة دولية عظمى تدعم نظام حكم محلي وتسبغ حمايتها عليه في مقابل خدمته لمصالحها في المنطقة ، حتى ولو تعارضت جذريا مع المصالح الوطنية" . في جميع الحالات نجد النظام ينفذ بنود هذا التحالف تحت مسميات ودعاوى عجيبة ومتنوعة ، فالركون إلى أميركا واسترضائها أصبح (رؤية واقعية) ، وتنفيذ مخططاتها في المنطقة بات (سياسة حكيمة) ، وعقد مؤتمرات مشبوهة يتم فيها طبخ الصفقات وتقنين التنازلات صار (دبلوماسية ماهرة) . وكانت النتيجة المؤكدة لتلك السياسات التابعة والمستأنسة ، هي فقدان دورنا واستقلالنا وضياع مكانتنا الإقليمية والدولية ، حتى هانت بلادنا ومقدساتنا على العالم بعد ان هانت على حكامنا ، ولم يعد للعرب وزنا واعتبارا في العالمين . [email protected]