هناك اتجاهان متباينان في تحديد بداية بوادر التأخر في الحضارة الإسلامية: الاتجاه الإسلامي والاتجاه الحداثي؛ فالاتجاه الإسلامي يذهب إلى أن بوادر التأخر بدأت عند الانحراف عن منهج الخلافة الراشدة، والتحول إلى الملك العضوض بينما نجد أن تيار الحداثة يعود بأسباب التأخر إلى العصر الجاهلي، متجاهلا دور الإسلام في تحديث الحياة الثقافية والاجتماعية والفكرية... التي شملت العالم أجمع. والتحول إلى الملك العضوض – حيث شابت الشورى الملك العضوض كما عبر الدكتور عمارة - منذ تأسيس الدولة الأموية (41 ه = 661م) أدت سلبياته إلى تفجير سلاسل من الثورات والأزمات عالجتها الدولة بالمزيد من الأدواء وما نعيشه اليوم من انكسار حضاري شامل ليس إلا امتدادًا لهذا الطريق المظلم الذي فتحت أبوابه الدولة الأموية، قال الحسن البصري: ولولا معاوية لكانت شورى إلى يوم القيامة. فنظام التوريث الذي اتبع في الخلافة الإسلامية منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما – ساهم بشكل كبير في الجمود الذي تحياه الأمة اليوم، ومن ثم في الانكسار الحضاري، وإن لم يظهر أثره أيام معاوية ومن خلفه من بني أمية، وهذا لا يعني الاندحار التام للحضارة، ولكنها كانت السبب الذي كان ينخر بالتدريج في البناء الحضاري الشامل لدولة الإسلام في كافة المجالات إبان الدولتين الأموية (41 - 140ه = 661 - 757م) والعباسية (140 - 656ه = 757 - 1258م) اللتين نشأ في ظلهما كل ما تزهو به حضارتنا مما تتلمذ عليه الغرب وغيرهم، وما راج خلالها من مذاهب فكرية، وعلوم مدنية وشرعية، وجهاد في سبيل الله، فانحراف الدولة في وقت مبكر لا يعني الاندحار التام، ولا يعني أن تاريخنا كان ظلامًا. ويرجع الأستاذ مالك بن نبي الأسباب الحقيقية للتقهقر الحضاري الذي وصل إليه العالم الإسلامي اليوم إلى "فقدانه القيم الروحية والفضائل الخلقية، باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات"؛ ولا شك أنه بانهيار القيم في عصر من العصور ينهار البناء الاجتماعي؛ لأن البناء الاجتماعي يقوم في الأصل على تلك القيم؛ إذ لا يقوى على البقاء بمقومات العقل والعلم والفن فحسب؛ لأن الروح وحدها هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت، فالذي لا يملك القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية الأرض. إن ضعف العقيدة في نفوس المؤمنين، وهي كما يسميها مالك بن نبي "الدفعة القرآنية الحية" تكون نهاية الدورة الحضارية للأمة الإسلامية، وهجرة تلك الحضارة إلى بقعة أخرى، أو إلى أمة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة طبقًا للسنن الإلهية في الكون. ذلك؛ لأن وظيفة الدين في الإسلام أنه قوة دافعة لحركة الإنسان الحضارية تتميز بالإيجابية والفاعلية في مقابل العقائد والمذاهب التي ترى في الجوانب الإيمانية والروحية مجرد وسائل وطرق الهروب من الواقع وإيثار للسليبة والسكينة حيث يتم الفصل نهائيًا بين العقيدة الإيمانية وبين الوظيفة الاجتماعية التي يمكن أن تقوم بها هذه العقيدة في دنيا الحضارة والتفاعل الاجتماعي". وربما قصد مالك بن نبي ب"الدفعة القرآنية الحية" تلك المبادئ القرآنية التي أقام الله عليها نظام الكون، لاسيما السنن الإلهية أو المبادئ الحضارية منها، وعندئذ يكون – في ظني – قد أصاب الحق، أما إذا قصد بالدفعة القرآنية تلك المبادئ العقدية الإيمانية البحتة، من إيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والرسل ... إلخ، وتغافل دور العقل والعلم والفنون توجه إليه هنا سؤال مؤداه: ما هي قيمة العقل في غياب القيم العقدية والإيمانية؟ وأغلب الظن أنه أراد الثانية؛ إذ يقول: "في البقعة المهجورة يفقد العلم كل معناه، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم، وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة: القوة الإيمانية". ربما كان الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ هنا أنه لم يفصل النتاج العقلي عن النتاج الثقافي الذي ينمو فيه، والفرق واضح بين ثقافة تتفاعل مع وسط تتحدد ذاتيته الحضارية وفق قيمه الدينية والعقدية، وبين ثقافة منفصلة عن أرض الواقع؛ لأنه أصبح واقعًا بدون هوية؛ لأنه فقد مقومات جذوره العقدية والإيمانية. إن الطريق الحضاري مفتوح لمن أراد الدخول، ولن يكون الدخول إلا بطَرْق باب سنن الله في الكون، فمن طرقها دخل وإن كان غير مسلم، ومن لم يطرقها طُرِد وإن كان من أولياء الله الصالحين. مدير المركز الحضاري لدراسات المستقبلية [email protected]