الجامعة التي كانت فيما مضى رائدة العمل الوطني الخالص، أصبحت اليوم رائدة الفوضوية، طلابها يخربونها، وأساتذتها يساهمون بقدر لا بأس به في خرابها. الحكومة والمجلس الحاكم في غير انزعاج، بل في هدوء واطمئنان، وكأن ما يحدث للجامعة أمر يراد. لقد كان الظن أن الجامعة بقانونها وتقاليدها وبكوادرها الرفيعة ستمارس دورها في الإصلاح، فإذا بها مقصودة بالخراب. يبدو أن الاستجابة لمطلب هيئة التدريس بانتخاب القيادات الجامعية لم يرد بها حق أبلج، وإنما أريد بها باطل لجلج، ذلك أن العملية الانتخابية أطلقت بلا قانون يلجم حركتها وينظمها ويحميها من المتشككين في صحتها. وها هي التجربة تثبت أننا لا نحسن ممارسة الانتخاب، ولن يأتي الانتخاب بمن نتوسم فيهم القدرة على الإصلاح، فمن بين المرشحين من هم من بقايا الحزب الوطني، وآخرون مغموزو السيرة، وليس ببعيد أن يأتي الانتخاب بأفراد من هذين الصنفين. فعدد غير قليل ممن عينوا من قبل النظام السابق استقالوا كرها أو طوعا ثم انتخبوا وأعيد تعيينهم مرة أخرى، واستقبل بعضهم بالرضا، والبعض الآخر بالسخط، وهذا دليل على أننا لا- ولن- نحسن الاختيار لأسباب وراثية لا حيلة لنا فيها. ومن العجائب تدخل الطلاب في أمور القيادات الجامعية، وهذا ليس بحق لهم، وحسبهم حراسة لائحتهم الطلابية التي تنظم شئونهم. لقد وصل الأمر بالطلاب إلى الاعتراض على نتائج الامتحانات والمطالبة بالإنجاح. ومن العجائب ثانيا ظهور منشورات قميئة تندد بأحد المرشحين لمنصب قيادي أو بآخر وتنسب إلى هذا أو ذاك أمور تستوجب احتقاره، هذا بخلاف ما ينشر على "الانترنت" من فضائح. ومن العجائب ثالثا أن أصوات المجمع الانتخابي لمدير الجامعة معروضة للبيع أو للمقايضة. أين الحكومة... والمجلس الحاكم من هذا الذي يحدث في مؤسسة منوط بها تشكيل وجدان شباب الحاضر والمستقبل. لقد كان بالإمكان إصدار مرسوم يقر وينظم عملية الانتخاب بدلا من اللجوء إلى المحاكم التي قضت بالفعل ببطلان الانتخابات في غير جامعة، ولا أحسب أن الدولة ستضرب لنا مثلا في عدم تنفيذ الأحكام. نريد قانونا يلغي تصنيف الأساتذة على النحو الهزلي القائم الآن. ونريد قانونا يجعل الإتيان بمدير الجامعة بالانتخاب الحر المباشر وليس من خلال مجمع انتخابي لا يطمأن إلى التزامه. والأفضل إقرار آلية أخرى لتعيين مدير الجامعة استرشادا بتجارب من دأبنا على الاقتداء بهم من الفرنجة. هذه القوانين لم تكن لتحتمل الانتظار لحين تشكيل مجلس تشريعي- لن نحسن بالقطع انتخابه- وإلا فالصواب كان غلق الجامعات إلى أن ينتهي من إعداد قانون جديد يعيد إليها رونقها ووقارها الذين فقدوا في زحام الأحداث. * * * تأملوا ما قاله الرئيس المخلوع في بداية ثورة الشباب "إما أنا أو الفوضى" . إنني لا أصدق صدق هذه العبارة، و لكن الفوضى بالفعل لم تترك بابا إلا قرعته، وخلعته، وجاست خلال الديار. هل ما قيل كان نبوءة أو توقع... لا أظن، لقد كان أمرا دبر بليل وجار الآن تنفيذه كأروع ما يكون التنفيذ... ولك الله يا أرض الكنانة.