الأصالة ليست هروباً إلي الماضي، واحتباساً به، وإنما هي استقراء للماضي في ضوء الحاضر سعياً إلي المستقبل.. الاثنين: يهمنا قبل الاسترسال في الحديث عن القيم والتقاليد الجامعية، ماذا يقصد بها- وما جدواها في مجتمع الجامعة وانعكاساتها علي المجتمع.. يهمنا أن نؤكد ان صورة الجامعة ليست قاتمة.. ولا تدعو إلي القلق، فالجامعات المصرية رغم كل ما اصابها من سلبيات تزخر بألوف النماذج المشرفة.. من أعضاء هيئات التدريس والعاملين والطلاب، عطاؤهم للعلم، ولمجتمعهم موصول ومشكور، لا ينكره إلا جاحد أو صاحب هوي مريض، فالكثرة أهل علم وخلق وسلوك كريم، وما نشير إليه من سلبيات طالت الروب الجامعي، أو أحدثت به ثقوباً ما هو إلا شئ عارض، يكثر في زمن التحولات الاجتماعية الكبري.. وسرعان ما تسترد الجامعات عافيتها. وفي نفس الوقت لا يحق لأحد ان يقلل من خطر هذه السلبيات، لا نهول أو نهون من شرورها، فهي كذرّات الحبر، رغم تناهي صغرها، فإنها تعكر كوبا من الماء الصافي، وتفسده، لذلك فالحذر واجب، خاصة بعد أن رأينا في فترة ما بعد ثورة 52 يناير، انفلاتاً في سلوك بعض الطلاب ومن بعض الأساتذة، ومن بعض العاملين.. أقلها الاعتداء علي المخالفين لهم في الرأي، بصورة لم يكن لها مثيل من قبل في الحياة الجامعية.. ومطالبة الطلاب بأن يكونوا شركاء مع هيئة التدريس في تصحيح الامتحانات.. ورفع نسبة النجاح إلي أقصي سقف، حتي ولو أدي ذلك إلي إنجاح الراسبين.. وتلك مصيبة كبري.. ودعوة للفساد العلمي.. وانهيار المجتمع. لا يستطيع أحد ان ينكر ان الفساد تسلل إلي أقدس محراب، محراب العلم والبحث العلمي، ولم تنقطع دعوات المصلحين من داخل الجامعة، ومن خارجها قبل ثورة 52 يناير، مطالبين باستقلال الجامعة، وبالحرية الأكاديمية، وبعث القيم والتقاليد الجامعية، التي كادت ان تتلاشي في ظل مناخ الفساد العام الذي نكبت به مصر كلها، علي مدي الثلاثين عاما الماضية حتي تعود الجامعة إلي سابق ازدهارها، تشع نور العلم والمعرفة، والسلوك الكريم لكل من حولها. ولكن للأسف لم تجد الأصوات المخلصة آذانا صاغية ولا عقولا واعية تستجيب لداعي الاصلاح، فقد كان تيار الفساد وجبروت المفسدين، عاتيا وكاسحاً، وكاد الاصلاحيون أن يفقدوا الأمل في أن يتحقق الاصلاح حال حياتهم.. وقد نال أصحاب هذه الدعوات من الأذي الشئ الكثير، ورغم عذابات السجون ظل الاصلاحيون علي المبدأ سائرين، حتي أذن الله سبحانه وتعالي بقيام ثورة 52 يناير، وشق الشباب وشهداء الأمة الطريق إلي الحرية، وانتصرت ثورة الشعب، بفضل مؤازرة الجيش لها، وانحيازه الكامل للشعب.. ولولا هذه المؤازرة، لكان هناك قول آخر.. ولم يخذل الجيش الشعب في ثورته، وانتصر للحق والعدل. الثوابت قبل أن تغيب لقد طالب الاصلاحيون بالحفاظ علي الثوابت الجامعية قبل ان تغيب، لأن في غيابها خطرا داهما علي الجامعة والمجتمع، فالجامعة مؤسسة من أهم مؤسسات المجتمع، تستكشف للشعب طريق التقدم والرقي، ويصون هذه الثوابت عاملان: العامل الأول: عامل الضبط الرسمي ممثلا في القانون، والعامل الثاني: عامل الضبط غير الرسمي ممثلا فيما تعارف عليه المجتمع الجامعي بالقيم والتقاليد الجامعية التي استنها الجامعيون منذ النشأة الأولي لقيام أول جامعة مصرية وهي الجامعة الأهلية عام 8091، بما لديهم من أخلاقيات وثقافة ورغبة في التقدم، ويقصد بها السلوكيات، ويعتمد هذا الوصف السلوكي علي القيم السائدة في الجامعة، وهي بطبيعتها متغيرة، وتحكمها ظروف مختلفة، لذلك فالقيم الجامعية هي أساس التقاليد الجامعية، وهي تقوم علي الموضوعية والاستقلالية في الفكر، وإزاحة كل ما يعوق انطلاق العقل والفكر للابداع، وتقوم أيضا علي الثقة بالنفس وعلي العلاقات الإنسانية، القائمة علي الاحترام المتبادل بين أبناء الأسرة الجامعية، التي أصبحت للأسف، تتأثر بمؤثرات سياسية من خارجها، لذلك لم تعد العلاقات الإنسانية هي العلاقات الصافية، وبعد ان كان مجتمع الجامعة في الغالب الأعم هو مجتمع الصفوة، لم يعد كذلك، فقد اصبحت الجامعة تابعة لمن يقودها من خارجها.. لذلك فالقيم الجامعية هي الوجه الآخر للتقاليد الجامعية وهي وجهان لعملة واحدة، قوامها السلوك الكريم والعمل الجاد، المبدع، المنتج تقدما ورقيا وحضارة أو ما يسمي بالقيم الرفيعة، التي ستحكم المجتمع بعد ذلك، لأن ابناء الجامعة سيحملون هذه القيم وتلك التقاليد معهم بعد التخرج إلي الحياة العامة، لذلك فالقيم والتقاليد الجامعية لاتصدر بقانون، ولا تحددها لائحة، وانما تنبثق من خلال الممارسة اليومية، ومن سلوك مفكرين وعلماء عظام، يرتفعون فوق الصغائر، ويكونون القدوة وتصبح خطاهم قانونا غير مكتوب، الخروج عليه جريمة، ولو لم تذهب بصاحبها إلي ساحة القضاء أو تدفع به إلي مجلس تأديب. مظاهر الخلل كثيرة لذلك.. فالقيم والتقاليد الجامعية تجعل من العلم والثقافة- والسلوك الكريم قيما عليا يطمع فيها النابه ويسعي إليها الطموح، ويري أغني الأغنياء نفسه بجوارها، صغيرا، لا تغنيه ملايينه شيئا، وهي وحدها التي تعصمنا من الاخطاء، وتقينا شر الوقوع في الخطيئة.. فلنحتفظ بالصالح منها، ونحاول ان نضيف إليها ما نفتقده، وما أسوأ الجامعة والجماعة التي تحتاج في كل خطاها إلي قانون مكتوب. وعندما بهتت هذه القيم الرفيعة، طغت علي الحياة الجامعية صور غير كريمة، وكشفت احصائية رسمية للمجلس الأعلي للجامعات ان الذين تم فصلهم من أعضاء هيئات التدريس بلغ 807 خلال الفترة من 6791 حتي سنة 0002، وبالتأكيد ان هذا العدد قد تضاعف عدة مرات خلال السنوات العشر الماضية، وأوضحت الاحصائية ان السبب الرئيسي للفصل يرجع إلي سرقة الأبحاث، وجرائم التحرش الجنسي والاغتصاب وتعاطي المخدرات والدروس الخصوصية، وتزوير الامتحانات وبيع الشهادات لمن يملكون المال، وخلال الثلاثين عاما الماضية أصاب القيم والتقاليد الجامعية خلل كبير، ومن مظاهره عدم الأمانة العلمية، ومحاولة البعض الحصول علي الكثير مع العطاء القليل، وسوء الخلق والابتزاز واللاموضوعية في الحكم علي الأشياء سواء في الامتحانات، وفي منح الماجستير أو الدكتوراه، وفي الترقيات، وتعيين من لا يستحق في وظائف هيئة التدريس بدءا من المعيد، وفي تولي المناصب القيادية بلا استحقاق علمي أو إداري. ومن الثوابت الجامعية أن يكون التعلم الذاتي، والاستقلال في التعليم والبحث العلمي والتثقيف سمة أساسية للتعليم الجامعي، يتبني كل جديد مفيد وكل مستحدث في العلم والمعرفة، ولكن الأمر الآن لا يعدو أن يكون التعليم تلقينا وحفظا واستظهارا من خلال مذكرات رديئة، تعارف عليها الأستاذ والطالب، سرعان ما تنسي عقب الامتحان، ومن الثوابت الجامعية أيضا أن تقوم الدراسة علي كل حديث يرتفع بمستوي الطالب علميا وثقافيا، والواقع خلاف ذلك، ويشير إلي تخلف محتوي الدراسة ولم يعد فيه ما يشحذ العقل أو ينشط الفكر أو يوقظه، وأن يكون هناك مستوي راق لخريج الجامعة بصرف النظر عن جامعته أو كليته، فلا تخرج إنسانا أدني من هذا المستوي، بينما نجد الآن هبوطا في مستوي المقررات، نتج عنها خريج ضعيف. ومن الثوابت أيضا أن يكون التعليم مبنيا علي أساس أنه شئ عظيم، يمكن أن يستفيد منه الأفراد ويريدون العودة إليه، يستمتعون فيه بكل جديد، وليس كما هو الآن شئ يريدون الخروج منه بأسرع ما يمكن، كارهين العودة إليه، ومن أهم الثوابت الجامعية وجود الأستاذ القدير، وهو الأستاذ الذي كان يُعد من لحظة تعيينه معيدا إلي أن يصل إلي الأستاذية أرقي وأخلد وابقي الوظائف الجامعية.. يعد إعدادا علميا وفنيا وتربويا، ينظر إليه كرائد اجتماعي وعلمي وثقافي خارج الجامعة، أما الآن فقد قلت أعداد هذه النوعية.. وقل تأثيرها داخل الجامعة وخارجها.. لذلك كله، وغيره كثير.. كان حرصنا علي ضرورة التمسك بالثوابت وإحياء القيم والتقاليد الجامعية والحفاظ عليها، وحمايتها من الضياع، فإذا ضاعت فقل علي الجامعة والمجتمع السلام.. رئيس فرنسا نعم.. أستاذ لا الأربعاء: في عام 5791، قررت جامعة القاهرة برئاسة د. صوفي حسن أبوطالب رئيس الجامعة آنذاك، منح الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان درجة الدكتوراه الفخرية في الاقتصاد السياسي، من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تقديرا من مجلس الجامعة للرئيس الفرنسي للصفات الإنسانية العالية التي يتمتع بها، ومن علم وثقافة، وما حققه من انجازات ضخمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الوثيقة التي تربط مصر وفرنسا. وفي حفل مهيب، أقيم بقاعة الاحتفالات الكبري بالجامعة، حضره أساتذة الجامعة وكبار رجال الدولة، وتم تسليمه الدكتوراه الفخرية في الثالثة بعد ظهر يوم الأحد 01 فبراير 5791، وأراد د. صوفي أبوطالب رئيس الجامعة ان يلبسه روب الأستاذية، ولكن الرئيس الفرنسي رفض الطلب، بلطف.. وقال ديستان انه لا يجوز له ان يرتدي الروب الجامعي، فهو وقف علي الأساتذة دون غيرهم، وهم وحدهم أصحاب هذا الحق، لا ينازعهم فيه أحد.. وقال الرئيس الفرنسي مخاطبا الحضور، انه لم يصل بعد إلي مرتبة أستاذ في الجامعة »!!«.. نعم أنا رئيس فرنسا، ولكن أستاذ لا.. قال الشاعر الخميس: أصبر علي كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله!