ينبغي تقدير الألم والغضب الذي يعتري أي جماعة مؤمنة لو تعرض رمز ديني أو دار عبادة لها للإساءة. اذكر مثلا أنني كنت متألما لقيام جماعة هندوسية متطرفة بهدم المسجد البابري بالهند قبل نحو عقدين من الزمن لمزاعم أنه شيد فوق قبر أو مكان مقدس يخص الهندوس. فهل كان غضب الأقباط في مصر قبل أيام في محله بسبب ما حصل في نجع "الماريناب" بأسوان؟. ابتداء فان الغموض ظل يلف حقيقة ما حصل في النجع وهل يستحق كل هذا الغضب أم لا، الى أن اشتعلت أحداث ماسبيرو الدموية فبدأت وسائل الإعلام تنشر معلومات بشأن ما قيل عن هدم كنيسة في "الماريناب" ليتكشف جانب من حقيقة المشكلة ، ويمكننا مبدئيا وحتى تنجلي الحقيقة كاملة على أيدي لجنة تقصي الحقائق استخلاص أن المشكلة تكمن في التضخيم والتضليل الذي قاد الى حريق كاد يشعل مصر كلها. أقوال المسؤولين في محافظة أسوان والأوراق الرسمية وأهالي النجع من مسيحيين قبل المسلمين يؤكدون أنه لم تكن هناك كنيسة من الأصل حتى تهدم .إذن.. من أين جاء المسيحيون في القاهرة وخصوصا رجال الدين بالمعلومات التي روجوها وضخموها عن وجود كنيسة وقيام مسلمين بهدمها والاعتداء على مسيحيي القرية وإجبارهم على تنزيل الصليب والجرس؟. ولماذا التباكي والأحاديث المستفزة المهيجة والمثيرة للمشاعر الدينية التي أشعلت مظاهرات سقط فيها قتلى وجرحى، لكن الأخطر هي الجروح التي أصابت المصريين جميعا بسبب ما جرى بغض النظر عن المبنى محل المشكلة - حسب ما استمعت لأكثر من متحدث وكما قرأت في أكثر من مكان وعلى لسان أكثر من شخص له علاقة مباشرة بالقضية - عبارة عن منزل كان يمتلكه مواطن مسيحي ، وكانت تقام فيه الصلاة منذ سنوات وقد تم بيعه لأسقف أسوان، وعقود المياه والكهرباء وتقرير معاينة مديرية الزراعة تؤكد أن المبنى هو بيت وليس كنيسة. محافظ أسوان اللواء مصطفى السيد يشدد على أنه لا توجد كنيسة باسم "مار جرجس" بنجع "المريناب" في إدفو. والأنبا هيدرا أسقف أسوان يؤكد على صحة تصريحاته التي أدلى بها لقناة الكرمة القبطية من أنه لا توجد كنيسة بالنجع. بعد تهدم البيت أصبح لا يصلح للصلاة، فحصل الأب مكاريوس على تراخيص رسمية لإحلال وتجديد ما أسماه كنيسة "مار جرجس"، وقام بإزالة البيت واستخراج تراخيص بطول 19 متراً وعرض 13 متراً أي ما يعادل 240 متراً من الداخل وقام من نفسه بزيادة ارتفاع المبنى ليصل إلى 15 متراً بدلاً من 9 أمتار. الوحدة المحلية بإدفو تؤكد أن المعاينة تمت على كنيسة "رئيس الملائكة" في "خور الزق" بمدينة "الرديسية " التي تبعد 35 كم عن نجع المريناب، إلا أن البناء لم يتم على تلك الكنيسة ،بل تم بالتحايل والتلاعب على البيت الموجود بنجع "المريناب" لبنائه ككنيسة. لاحظوا هذا الكلام الخطير عن وجود تلاعب وتحايل على الأوراق الرسمية ، فالأسقف حصل على التراخيص لإعادة بناء البيت تحت اسم كنيسة "مار جرجس " مع أن المبنى لم يكن كنيسة. ولاحظوا أن معاينة البناء تمت على كنيسة موجودة في مكان آخر ليتم الحصول على ترخيص بناء كنيسة لمكان هو في الأصل بيت، ثم يتم تحويل البيت أثناء بنائه الى كنيسة ،وهذا خداع واضح وهو ما تسبب في بروز المشكلة داخل النجع والتي تلقفها المهيجون في القاهرة وحولوها إلى أزمة كبرى انتهت بسقوط قتلى ومصابين . لماذا لم يبن البيت ويظل كما هو مكان عبادة حديثا مطورا انتظارا لتقنين أوضاع الكنائس أو أماكن العبادة غير المرخصة أو صدور قانون لبناء الكنائس ليتحول الى كنيسة في إطار شرعي وقانوني وليس بالالتفاف وفي الظلام وفرض الأمر الواقع كما يحدث كثيرا خلال السنوات الأخيرة وهو يكون سببا رئيسيا في نشوب مثل هذه الأزمات. الحاصل الآن أن هناك هوسا مسيحيا لبناء كنائس، وهي ليست كنائس عادية ،إنما هي مبان ضخمة مرتفعة ،وهذه ليست مواصفات دور عبادة لله ،إنما هي أقرب إلى الحصون والقلاع ودشم الطائرات ، ولا ادري ما علة هذا الأمر؟. هل هناك في الذهنية القبطية مخاوف كامنة ومخاطر متوقعة عليهم وعلى دور عبادتهم ؟. هذا التفكير – إذا صح – يكون خطيرا ولا بد من تبديده ، فعلى مدار أكثر من 1400 سنة منذ دخول الإسلام مصر والأقباط لم يتعرضوا للأذى لأنهم ببساطة من أصحاب الأرض والبلد وشركاء أصلاء في الوطن. لا يحتاج الأقباط للإكثار من بناء الكنائس لإثبات وجودهم وتأكيدا لأحقيتهم في العيش في مصر لأن هذا الوجود تاريخي بل ويسبق الفتح الإسلامي لمصر ولا أحد يجادل في ذلك. والهوس ببناء الكنائس يقابله هوس مماثل من المسلمين في بناء المساجد وهي منافسة ذات وجه طائفي قد تضر أكثر مما تنفع، وهذا الموضوع سيكون له مقال خاص. مشكلة "الماريناب" افتعلها مسيحيون من القرية ولعب فيها دورا رجل الدين الذي تحايل في المعاينات وفي الحصول على التراخيص وتلاعب عند البناء بأن توسع في مساحة البيت وفي ارتفاعه وهذا سلوك لا يليق برجال الدين ولا بمكان سيخصص للعبادة بأن تقوم أركانه على الخداع والتضليل. في نفس الوقت لا يليق أبدا أن يقوم أحد مهما كان غير أجهزة الدولة بالهدم أو الإزالة لأي مبنى حتى لو كان مخالفا فهذا اعتداء صارخ على ما بقى من هيبة للدولة. وفي مثل هذه الأحداث هناك رجال دين وسياسيون ونشطاء وإعلاميون ينتظرون مشكلة كهذه حتى لو كانت بسيطة ويقومون بالنفخ فيها وتحويلها لأزمة حتى لو كان المتسبب فيها أو مفتعلها هو الطرف القبطي نفسه وهذا ما حصل في موضوع "الماريناب" . المظالم إذا كانت موجودة بالطريقة التي يتحدث عنها الأقباط لا تعالج بالمظاهرات ولا بالاعتصامات ولا بالعنف في الداخل ولا بالتصعيد من جانب أقباط الخارج وطلب حماية دولية أو كيان خاص بهم وخلافه من تلك الدعاوى المرفوضة ،إنما إزالة المظالم تتم بالعقلانية والهدوء وعدم الاستفزاز وفي إطار أنها مطالب وحقوق مشروعة لمواطنين مصريين وليس لمسيحيين حتى لا نظل ندور في فلك التقسيم الطائفي ،إنما الدوران يكون في فلك المواطنة المتساوية والعدالة بين جميع المصريين دون النظر لمسألة الدين والعقيدة والنوع واللون والعرق.