قضيت ثلاثة أيام خارج مصر نهاية الأسبوع الماضي في ندوة خصصت لدراسة التطورات الحادثة في الفكر الإسلامي وخاصة التيار السلفي في أعقاب الربيع العربي والآفاق المستقبلية التي تؤثر في اختيارات الإسلاميين السياسية بناء على ذلك ، وكانت الحوارات جادة ومهمومة للغاية ، وربما عدت في هذه الزاوية إلى التوقف عند بعض ما ناقشته الندوة ، ولكن خواطر تزاحمت عندي أثناء السفر حاولت أن أكتب فيها وأخرت اعتذاري عن مقال أمس على أمل أن أتمكن من الكتابة إلا أن تزاحم الحوارات واللقاءات وإجهاد السفر حال دون ذلك . أستغرب جدا من الإعلام المصري الخاص ، والقنوات الفضائية بشكل أكثر تحديدا ، التي تجاهلت أبعادا مهمة للغاية في واقعة المظاهرة الطائفية التي اقتحمت منطقة ماسبيرو الأسبوع الماضي وانتهت إلى وقوع مأساة بمقتل العديد من الضحايا من المواطنين الأقباط وبعض رجال القوات المسلحة ، وأنا لا أتحدث عن الأبعاد السياسية وحدها ، وإنما أيضا الأبعاد الإعلامية ، لأن بعض ما تداولته شبكة الانترنت من شهادات وصور وأشرطة حية هو "كنز" بالمعنى الإعلامي ، كان جديرا أن تلهث خلفه القنوات الإعلامية وتجري حوله الحوارات والمواجهات التي تستقطب اهتمام ملايين المشاهدين ، فلماذا تجاهلت القنوات الخاصة هذا "الكنز" الإعلامي وضحت بالبحث عن النجاح والجاذبية المضمونة ، هل هو نوع من "التصوف" الإعلامي ، والزهد للابتعاد عن المزيد من الإثارة في ملف حساس ، أعتقد أن هذا افتراض غير وارد قطعا ، لأن نفس القنوات شنت حملة تحريض وإثارة طوال الأسبوع وحتى الآن ببث صور وحوارات ومشاهد تعبئ القلوب بالغضب وتشحن النفوس بالمزيد من الهوس الطائفي . الانحياز الإعلامي لوجهة النظر القبطية والروايات القبطية في الأزمة من أولها له خلفيات وجذور أيديولوجية وتاريخية سأتوقف عندها غدا بالتفصيل الكامل لأنه من المهم أن نضع أيدينا على جذور هذا الانحياز سواء في الكتابات التاريخية أو الفكرية أو الأيديولوجية أو حتى الأدبية ، ولكني لا أتصور مثلا أن يصل الانحدار الأخلاقي إلى مستوى أن يهتم الإعلام بتقديم واجب العزاء في الضحايا الأقباط بينما يتعامل باحتقار شديد للجنود المصريين الذين ذهبوا ضحية نفس المواجهات ، وكان بعض الكتاب قد استنكر عدم تقديم المجلس العسكري للعزاء في الضحايا الأقباط رغم أن نفس الكاتب لم يكلف خاطره ولو بكلمة عارضه أن يقول أي شيء "يفهم منه" أنه يعزي في "المواطنين" المصريين من جنود القوات المسلحة ، كأنه يعتبرهم جنودا صهاينة مثلا ، كذلك أستغرب جدا أن تتجاهل القنوات الفضائية نشر الأشرطة المسجلة لقيادات دينية مسيحية تحض على الكراهية والعنف وتعلن نيتها في قتل محافظ أسوان خلال ثمان وأربعين ساعة إذا لم يرضخ لطلباتهم ، ويهدد الجيش وقائده بقوله " هو عارف حيصل إيه إذا لم ينفذ المطالب" ، وأن رجل الدين المسيحي هدد المحافظ بأنه سوف "يضربه بالجزمة" ويفقأ عينه إذا نفى وجود كنيسة في المريناب ، وقد شاء الله أن يخزيه بأن يعلن أسقف أسوان نفسه بأنه لا توجد كنيسة من الأساس في المريناب ، المفارقة الغريبة جدا هنا ، أن المجلس العسكري اضطر إلى أن يعلن عن مؤتمر صحفي لكي يقدم فيه هذه المشاهد كوثائق على الترتيب المسبق للعنف من قبل قيادات دينية ، تخيلوا أن المجلس القائم بأعمال رئيس الجمهورية يعجز عن أن ينشر في الفضائيات وثيقة مصورة فيضطر إلى أن يعرضها في مؤتمر صحفي خاص ، ومع ذلك امتنعوا عن إذاعتها ولو نقلا عن المؤتمر الصحفي ، هل هناك تطرف إعلامي وانحياز مرضي للرواية القبطية أكثر من ذلك . أيضا أذاعت قناة قبطية لقاءا تليفزيونيا مع أسقف أسوان ، صاحب الولاية المباشرة والأولى على ملف الكنيسة المزعومة في المريناب وأدرى الناس بكل صغيرة وكبيرة مما يتعلق بكنائس أسوان ، وقال الرجل في اللقاء بكل أمانة ووضوح أنه لم تكن هناك كنيسة من حيث الأساس في المريناب ، وإنما منزل لأحد المواطنين الأقباط كانوا يصلون فيه في بعض المناسبات ، ونفى نفيا تاما أن يكون المسلمون قد اعتدوا على البيت ، بل زاد أنهم كانوا يحيونه ويعرضون عليه العون في أمور كثيرة ، وقد نشرنا في المصريون ذلك التقرير الخطير في مانشيت رئيسي ، كما نشرته مواقع قنوات فضائية كبيرة مثل قناة العربية ، ومع ذلك ، رفضت جميع الفضائيات الخاصة المصرية أن تنشر ذلك الحوار الخطير ، ورفضت الصحف أن تكتب عنه شيئا ، رغم أنها أهم وأخطر شهادة قبطية تدحض الادعاءات الكاذبة التي هيجت الدنيا وتبطلها من حيث الأصل ، لكن لأن جميع هذه القنوات تورطت في ترويج الأكاذيب ، وصناعة الوهم ، وتهييج الفتنة ، وتحدثوا عن التاريخ العريق لكنيسة المريناب ، وكأنهم كانوا جيرانها في ادفو ، كان من شأن نشر هذه الوثيقة وإذاعتها أن يهينهم ويذل أعناقهم أمام ملايين المشاهدين ويصمهم بالكذب والجهل ، ولذلك تجاهلوها جميعا ، رغم قيمتها الإعلامية كحدث مثير للغاية ويمكن أن تجري حوله برامج تستقطب ملايين المشاهدين ، ودع عنك أن ما حدث هو بكل بساطة انتهاك لحق المشاهد في المعرفة ، وتزوير متعمد للحقيقة . أيضا في ما يتعلق بأحداث المظاهرة الطائفية التي جرت أمام ماسبيرو ، حرص الجميع على أن ينشر المشاهد المحزنة لضحايا من الأقباط ، وأحاديث بعض الكتاب الأقباط المتشددين والذين انكشف عنهم غطاء العلمية والموضوعية ليظهر أحدهم في صورة المتطرف التقليدي ، وكلهم تحدث عن مظاهرة سلمية وعن سلوك سلمي جدا مقابل عنف الجنود ، في حين أن المشاهد الحية للمظاهرة من قبل وصولها إلى ماسبيرو حيث كانت الهتافات عدائية ومسفة للغاية مع الوطن والمسلمين والتاريخ والهوية ، وهو استفزاز عمدي من شأنه تهييج الآخرين واستثارتهم للغضب والرد ، كما أن اعتداءات المشاركين في المظاهرة أثناء سيرها على السيارات الخاصة وتحطيمها أو بعض المحلات دفع بعض الأهالي بكل تأكيد إلى العنف المقابل دفاعا عن ممتلكاتهم ، ثم لما وصلت المسيرة إلى ماسبيرو فوجئ الجميع بإطلاق النار على الجنود ومطاردتهم وسحلهم في الشوارع وكسر الحجارة الضخمة فوق رؤوسهم ، كل هذا موثق بالصوت والصورة من قبل نشطاء ومن قبل قنوات تليفزيونية عالمية ، مثل التلفزيون الألماني وقناة الحرة الأمريكية ، ورغم انتشار تلك المشاهد على نطاق واسع في مواقع الانترنت ، إلا أن فضائيات "الفتنة" رفضت جميعها أن تذيع شيئا من ذلك أو أن تشير إليه ، واكتفت بالتركيز إلى إذاعة وجهة النظر القبطية والمشاهد التي تؤيد وجهة نظرهم أو التي تبعث على التعاطف مع موقفهم . ما يحدث هو عمليات "قمع" إعلامي منظم ضد الغالبية الساحقة من الشعب المصري ، وأسوأ من هذا القمع ، فإن ما يحدث هو عملية استفزاز مركز ومتوالي للغالبية المسلمة من أجل جرها إلى المواجهة الطائفية ، وهذا المخطط الإجرامي الذي تورطت فيه جميع قنوات رجال الأعمال من فلول الحزب الوطني والذين جمعوا المليارات من فساده ، ليس موجها في جوهره إلى المجلس العسكري ، بل موجه إلى مصر والثورة المصرية بالأساس ، لجذب أشواق الناس من الإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني والقضائي والدستوري والاجتماعي ، إلى طريق الطائفية ومعاركها ووحلها وأفقها المفتوح على الفوضى بلا نهاية . [email protected]