في أحد المشاهد الساخرة لإسماعيل يس كان يمثل دور مجند يطلق النار ولما فشل في قنص الهدف قال للشاويش عطية الجملة الساخرة “أنا بقول سيبوني أضرب وانتم حطوا السوادة على مهلكم” على الرغم من السياق الكوميدي لهذا المشهد إلا أني أتذكره بقوه هذه الأيام الواقع أن هذه الجملة تنسحب على الواقع المزري للعقلية المصرية كلها عقلية “أنا أضرب وأنتم حطوا السوادة على مهلكم” كل المصريين تقريبا الآن يفكرون بمنطق إسماعيل يس في أي قضية كانت ,الرجل الممتاز هو الذي يؤيد رأيي الذي ذهبت إليه مسبقا ,لو كان رأيي أن البرادعي خائن وعميل فإن الرجل الذي يفهم هو الذي سيقول ذلك بغض النظر عن أدلته وهي صورة أخرى من صورة “التنشين ثم وضع السوادة على مهل” ,حتى في الفقه نتعامل الآن جميعا بنفس المنطق ,أنا أقول إن كذا حرام ليكن الشيخ الفقيه العلامة حجة الزمان هو من سيؤيد هذا الرأي بغض النظر عن غثاثة أدلته أو تفاهتها ,إلى الآن تبدو القضية محدودة الخطر ولكن المصيبة أن ينسحب هذا التفكير على منهج تلقي الأخبار . إذا تأملنا أي حادثة فستكتشف فورا في كل الحوادث أن تضارب الروايات هو اسم اللعبة ,ستسمع أخبارا وروايات كفيلة بإدانة كل الأطراف بما فيها من يسمع القصة نفسه ! وهنا يأتي دور طريقة إسماعيل يس ,أنا مستعد تماما أن أقبل الأخبار التي توافق معتقدي مهما كانت سخيفة ومستعد دائما لشحذ عقليتي النقدية متى خالفت الأخبار معتقدي . في حادثة المريناب سمعنا روايتين متضاربتين إحداهما : أن المبنى بالفعل كنيسة ورغم ذلك أصدر المحافظ قرارا بإزالتها . والثاني : أنها مضيفة وعن طريق التلاعب في الأوراق تم البدء في تحويلها لكنيسة ,انظر الآن كيف تعامل الناس مع الأخبار ,تقريبا كل المسيحيين الذين تسمع منهم يؤمنون أن المحافظ هو ألعن كذاب عرفته المحافظة وتقرأ لهم شتائم شديدة البذاءة للمحافظ بنفس طريقة أنا هنشن وأنتم حطوا السوادة على مهلكم ,نشان المسيحيين أننا مضطهدون ومظلومون ووضع السوادة أن نصدق هذا الخبر ولتذهب الموضوعية والدقة للجحيم! في المقابل لا تكاد ترى إسلاميا واحدا يؤمن أن الرواية المسيحية فيها جزء من الصحة نفس الطريقة ونفس العقلية هنشن وابقوا حطوا السوادة على مهل ,أي خبر يوافق هذا الكلام مقبول طبعا . بعض الإعلاميين استغلوا الموقف لتصفية حسابات سياسية مع الإسلاميين إنهم يعلمون يقينا أن بناء الكنائس وقانون دور العبادة الموحدة يمثل انتصارا لهم على الإسلاميين وهم حاولوا منذ فترة تمرير هذا القانون وفشلوا لرفض الكنيسة نفسها ! مما استدعى إعادة استحضار المشهد ,كاتب شهير تكلم عن الكنيسة المبنية منذ عام 94 إذا هو يثق أنها مبنية منذ أكثر من 15 عاما وهذا يضع أمامي احتمالا من اثنين إما أنه من مواليد هذه القرية – التي أشك أن يعرف موقعها أصلا أو أن يكون سمع عنها في الأساس قبل الأزمة – وعليه فإنه يدرك حقيقة هذا المبنى أو أنه نجح في الإطلاع على كافة تراخيص البناء وتراخيص بناء الكنيسة وفواتير الماء والكهرباء وخلافه وتأكد بما لا يدع مجالا للشك أنها كانت كنيسة! العجيب أنه يتحدث بعدها عن الموضوعية وعن الأمانة العلمية ثم يحرض المتظاهرين الأقباط صراحة ضد الجيش! هل يعرف أي واحد من السادة موقع هذه البلدة ؟ هل سمع أحدهم من قبل عن هذا الاسم قبل الأزمة ؟ أنا قد زرت منذ عشر سنوات قرية مجاورة لها اسمها الحصايا ووجدتها شديدة البدائية والبساطة وكان سبب زيارتي قصة تطول ولكن لم أكن لأزورها في ظروف اعتيادية فكيف أدرك هؤلاء العباقرة هذه القصة ؟ كيف تأكد كل الأقباط الذين خرجوا في المظاهرة أن المبنى كان فعلا كنيسة وتم هدمها ؟ حتى بعد أحداث ماسبيرو الدامية لا أحد يريد أن يسمع ولا أحد يريد أن يسمع الآخر ,كل مواطن في مصر قد ركب مرشحا خاصا به على أذنه يقبل به الأخبار التي تصله وفقا لرؤية حددها من قبل الكثير من المسيحيين وضعوا مرشحا لا يقبل إلا رسالة واحدة الخطأ كله من الجيش بعض الإسلاميين إن لم يكن معظمهم يضعون مرشحا أخر لا يقبل إلا الأخبار التي تقول إن المسيحيين هم من بدأوا الاعتداء من يكره المجلس العسكري وسياسته وضع مرشحا أخر ,ضباط الجيش مجرمون وقتلة ولربما تمنى لو فجر بعض المسيحيين بالقنابل للتأكيد على هذه المعلومة ! خصوم التيار الإسلامي يريدون مرشحا يمرر المعلومات التي تؤكد ضلوع الإسلاميين في الأحداث وهو ما لم يكن ممكنا بالمرة هذه المرة وبالتالي فقد تطوعوا من تلقاء أنفسهم ليؤكدوا أن السلفيين والإخوان هم سبب ما حدث وخرج أحدهم كالديك منتفشا ليؤكد أن سماع القرءان بأصوات خليجية يؤثر على الانصهار في المواطنة ! أظن أن هذا طبيعي وتقليدي للعقلية العربية عموما ,العربي لا يتفهم أن تختلف معه في الرأي ,كيف لا ترى رأيي الذي هو دليل الحق وميزان الحكمة ؟ ما دمت قد عجزت عن قبول رأيي فأنت بالتأكيد خائن أو عميل أو ماسوني أو كافر لا يوجد مكان للحلول الوسط لا يوجد مكان لنرى ما يراه الآخرون ,مثل قصة العميان الذي أمسك أحدهم بذيل الفيل فقال الفيل طويل ونحيف مثل الثعبان ,وأمسك الأخر بساق الفيل فقال الفيل مثل الشجرة الصلبة ,وأمسك الثالث بقرنه فقال إنه صلب كأنه من صخر . لم نتوقف للحظة واحدة لنفهم هل ما نختلف عليه فعلا يستحق الخلاف أم لا ؟ هل يعتقد الإسلاميون حقا أن كل ليبرالي أو علماني هو عميل حقا للإمبريالية الأمريكية وللصهاينة؟ لماذا لا نقبل أن يكونوا حريصين على الوطن فعلا ؟ إذا كنا نقول إنهم قد خالفوا الشريعة في كذا وكذا فإن ذلك لا يزال إلا بالحوار البناء والمناقشة المتحضرة مع الرموز الوطنية التي تريد فعلا مصلحة الوطن والتي الأصل فيها هو احترام الشريعة مثل الدكتور المعتز بالله عبد الفتاح مثلا ومن يريد فعليا السماع والنقاش . عندما كان طه حسين طالبا في المعهد الأزهري دخل على شيخه فقال له سمع سورة كذا يا أعمى ,فاحتملها طه حسين وكن للأزهر غلا وحقدا فلما سافر لفرنسا وحضر الدكتوراه في السوربون رجع وهو ناقم على التعليم الديني وعلى الأزهر والمشايخ بالكلمة السوء لماذا لا نفتح نقاشا أمينا مع هؤلاء الرموز والشباب من مختلف الائتلافات الشبابية ؟ هل استغنينا عنهم ؟ لماذا لا يمارس الإسلاميين دورهم الدعوي مع هؤلاء وليستفيدوا من طاقتهم الإيجابية وحبهم لبلادهم ؟ وفي المقابل الليبرالي أو العلماني أو الشيوعي أو الاشتراكي الذي يعتقد أن ولاء التيارات الإسلامية لدول خليجية هل عندك دليل أو حتى شبهة دليل ؟ فمالكم كيف تحكمون؟ ألا تستطيعون أن تفكروا للحظات أن هؤلاء الذين عانوا أشد البطش والاضطهاد في عهد المخلوع يحبون بلادهم وكان بإمكانهم تركها والهجرة منها إلى غيرها ؟ إن كنت تعتقد أن هؤلاء متطرفون فلماذا لا تفتح معهم نقاشا مطولا وتناقشهم وإن خالفتهم في المسائل الشرعية فلتأت بالشيخ الذي تثق فيه ويناظرهم لنصل إلى الحق سويا فما عندنا نحسبه الحق فمن جاءنا بخير منه قبلناه . أما الذين يصرون على التشويه ولغة التلاسن والتراشق الفقري لا يستفيد منهم المجتمع ,كل هؤلاء مصرون على أن يطلقوا النار أولا ثم يضعوا السوادة على مهل ,لا أحد مستعد لقليل من التعقل وقليل من التفكير بحكمة لحل هذه الأزمة ,النتيجة أننا صرنا مجموعات متباينة مستقطبة استقطابا حادا والهوة تزداد بيننا ومساحة القواسم المشتركة بيننا تتضاءل يوما بعد يوم وبعد قليل سنتحول إلى مجموعة من الذئاب المتصارعة ,ذئاب تتشارك في زحمة السير وارتفاع أسعار المعيشة ,تعاني من مشاكل ازدحام الحافلات التي نركبها سويا ,نمسح سويا العرق الذي ينساب منا في نفس الوقت بفعل حرارة الجو .!! مهندس برمجيات