"لقد أنقذنا الأهالي في سوريا من الجيش الفرنسي عام 1945م، إلا في مدينة حماة فقد أنقذنا الجيش الفرنسي من الأهالي!". هذه نص كلمة قالها الجنرال البريطاني (باجيت) القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط في مذكراته عن تلك الفترة. بعدما اقتحم الطيران الفرنسي مدينة حماة، وهدم البيوت على رؤوس من فيها، وتناثرت جثث العزل في شوارع حماة، بيد أن المجاهدين أسقطوا ببنادقهم القديمة الطائرات الحربية، ودحروا الحملة المدرعة وقتلوا قائدها (سيبس) وبعض معاونيه من ضباط المدفعية، وغنموا سيارات وعدة رشاشات وقنابل مدفعية، وعددا من المصفحات، والمدافع، وتأهبوا لدخول المدينة، لكن وصول الجيش البريطاني لإنقاذ الجيش الفرنسي حالت دون ذلك، حيث فرض وقف القتال. كلما قرأت ذلك التاريخ دب في نفسي الأمل وأيقنت بنصر قريب لإخواننا في سوريا الحبيبة، وفي حماة مدينة الأحرار. حماة .. تلك المدينة الأبية! التي تطوع أهلها عن بكرة أبيهم في حرب 1948م مع قوات النقيب أديب الشيشكلي، ومع القوات الشعبية بقيادة الدكتور مصطفى السباعي، وحققوا انتصارات هائلة، ثم لم يلبثوا أن رفضوا انقلاب العسكر ووقفوا بشجاعة في وجه حسني الزعيم و أديب الشيشكلي، ولم يغرهم أن كان الشيشكلي من أبناء حماة، أو يغرهم دفع حسني الزعيم حقيبة رئاسة الوزراء لرجل من أبناء حماة. حماة .. تلك المدينة الأبية! التي رفضت حكم العسكر البعثيين الذين وصلوا إلى السلطة على ظهر الدبابة في 8آذار من عام 1963م، وأعلنوا حالة الطوارئ والأحكام العرفية منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، وذهبت دولة المؤسسات ومنعت الانتخابات، وحظرت الأحزاب، وصنع برلمان بلا معارضة، للمصفقين فقط، وفرضوا على الناس الفكر البعثي النصيري الذي يقوم على تأليه البشر والأفكار، وسفك الدماء. حماة .. تلك المدينة الأبية!! التي ضاق بها رفعت الأسد (لينين سوريا) ذرعا فصرح قائلا: "سأمحو حماة من الخريطة، ستقول الأجيال اللاحقة كانت هنا مدينة اسمها حماة"، وقال: "سأجعل حماة مزرعة للبطاطا"، وقال: "سنقيم مكان حماة حدائق ومزارع وفنادق ومقاصف ومطاعم ونسكر على أنقاضها". حماة تلك المدينة الأبية! التي دفعت فاتورة الحرية قديما وحديثا بتعرض أبنائها للمحاكم العسكرية وإعدام العلماء وذوي الرأي ظلما وعدوانا كما حدث عقيب أحداث الدستور عام 1973م ، وبعد استباحة الجيش للمدينة وسوق العلماء إلى المعتقلات. وفي أحداث (1982م) عندما استباحت المدينة القوات الخاصة بقيادة علي حيدر، وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، فهدمت البيوت والمساجد وهتكت الأعراض، وحصدت أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيد، في واحدة من أكبر المجازر البشرية في التاريخ الحديث. مجزرة بشعة ما زالت المنظمات الحقوقية تتحدث عن تفاصيلها، وقد مرت مرور الكرام على المجتمع الدولي حينئذ ولم يقدم أحد من المسئولين عنها إلى المحاكمة حتى الآن، بل لا زالوا يتمتعون بحصانة ومناصب. وكما صمت المجتمع الدولي وغض الطرف عن مذابح الأمس، يصمت ويغض الطرف عن مذابح اليوم رغم تطور وسائل الإعلام وسبل الاتصال، واتساع نطاق الاحتجاجات ليشمل المدن السورية جميعها بما يمثل ثورة عارمة تستهدف الإطاحة بالنظام، ويفسر ذلك الصمت ما نقلته صحيفة الجارديان عن مصادر دبلوماسية بشأن رضا الغرب عن بشار ومخاوفه من تغيير النظام في سوريا وما يمكن أن يتبع ذلك من تغير في المواقف تجاه الكيان الصهيوني واتخاذ خطوات فعلية لتحرير الجولان. فالمجتمع الدولي ينظر إلى الأبعاد والنتائج فنجاح الثورة في سوريا لا يعني سقوط نظام ظالم غاشم فحسب، وإنما القضاء على نظام طائفي دموي ولغ في دماء الشعب الثوري عشرات السنين وألهاهم عن تحرير كامل ترابهم الوطني، ويعني أيضا انحسار المد الإيراني الشيعي في بلاد العرب في الهلال الخصيب بما يمثل ضربة في مقتل لمبدأ تصدير الثورة الشيعية الإمامية التي تبناها الخميني، ويعني أيضا صنع محور ديمقراطي إسلامي يمتد من تركيا إلى مصر عبر سوريا مما يزيد من عزلة الكيان الصهيوني في المنطقة، بعد تلقى الكيان ضربات قاسمة تؤذن بنهايته أولاها بزوغ نجم الدولة الأوردغانية وإيذان أفول دولة العلمنة التركية فخسارة الحليف الاستراتيجي تركيا بما لا يخطر لأحد على بال، وثانيها قيام الثورة المصرية ونجاحها الذي يعني سقوط نظام كامب ديفيد؛ فالعقل الجمعي للشعب المصري يؤمن بأنه لا يقبل بمجمل بنودها أي نظام ديمقراطي وطني في مصر، وثالثها وقوع دولة البعث التي تصدر شعارات المقاومة والممانعة، بينما تبقى الجولان أكثر أقاليم سوريا أمنا على حد تعبير قادة الصهاينة. المجتمع العربي ممثلا في الحكومات والمجتمع الدولي قام لنجدة الكويت، وتحرك لإغاثة ليبيا، فلماذا يغفل عن سوريا، ولا يتخذ مواقف تعزل النظام السوري وتسقطه كتجميد العضوية وغلق السفارات؟! لأن سوريا تسبح في بحار من الدم، وليست بحارا من الزيت الأسود، أما حماة مليئة بالسمن والجبن والزيتون والمشمش، لكن ليس بها بترول. حماة .. الله يحميها. د. شريف عبد اللطيف. [email protected]