لا أجد شيئا أشبه به حال مرتبات الموظفين في مصر قبل الزيادات التي تقررها حكومتنا المؤقتة وبعدها إلا البالونة قبل نفخها وبعد نفخها ، حيث يحسب الرائي لها أنه قد حدث لها تغيير كبير بعد انتفاخها وأنها قد صارت عملاقة ، ولكن عند التدقيق في وضعها الجديد لا يجد شيئا ذا بال قد طرأ عليها ، اللهم إلا انتفاخ جدارها ؛ مما يجعلها أقرب للانفجار والتمزق نتيجة امتلائها بالهواء الذي لا قيمة له ... وما تفعله حكومتنا الموقرة في المرتبات لا يزيد ولا يختلف عما يفعله نافخ البالونة ، فهي تقرر زيادة المرتبات لكل فئة من فئات المجتمع كلما وجدت منها تمردا ، وهذه الزيادة لا يقابلها أي رصيد حقيقي ، وبالتالي فلا تعدو كونها زيادة في مطبوعات أوراق البنكنوت ( العملة ) والنتيجة انسياب سلس في حركة ارتفاع الأسعار ، وما كان يُشترى على سبيل المثال بعشرة جنيهات منذ عدة شهور غدا سعره الآن عشرين جنيها ؛ مما يعني أن الموظف الذي كان راتبه ألف جنيه وصار بعد الزيادات ألفي جنيه ، سوف تكون لراتبه نفس القيمة الشرائية قبل زيادة المرتبات ، وبالتالي لن يستفيد من تلك الزيادات إلا امتلاء جيبه بالنقود .. وقد يرضى الناس بهذا الأمر ما دامت زيادة الأسعار يقابلها زيادة في المرتبات ، ولكن هذا التضخم يصيب الاقتصاد العام في مقتل ، ويدمر أصحاب رءوس الأموال ، فإن كان رجل له رصيد مالي في شركة يدر عليه 20% في العام فهذه النسبة تعني بالنسبة لارتفاع أسعار الأشياء إلى ضعف ثمنها خسارة 80 % ، وبالتالي ستصاب أكثر المشاريع بالتعثر ، وتكون مهددة بالإغلاق لو بقي ارتفاع الأسعار يسير على نفس المنوال ، وستعلن البنوك إفلاسها بعد أن يرى المودعون أن العائد السنوي على ودائعهم لا يساوي شيئا بالقياس إلى انخفاض القيمة الشرائية للجنيه ( بغض النظر عن حرمة هذا العائد أو عدم حرمته لأنه ليس موضوع حديثنا ).. كما أن التضخم وزيادة النقود في جيوب الناس يجرؤهم على النفقة غير المرشدة ، ويسهل عليهم دفع الأموال في غير مكانها الطبيعي ، فالموظف الفقير الذي يجد في جيبه فجأة ألف جنيه لن يستكثر دفع عشرة جنيهات في علبة دخان ، والمرأة الفقيرة التي تجد في جيبها ألف جنيه لن تستكثر على نفسها بضع جنيهات تتحدث بها في الهاتف مع صديقتها في كلام لا يقدم ولا يؤخر ، وطفل الحضانة الذي ربما يعيش والده أو والدته على الصدقة لن ينفع معه كسور الجنيه في أي شيء يشتريه ، وبعد أنا كنا من أربعين عاما فقط نستفيد من كسور القرش ( 10 مليمات ) صار الجزء من الجنيه ( نصفه أو رُبعه ) لا يُعرف قيمته إلا عند طابور الرغيف المدعم ( فئة 5 قروش) لمن اضطرتهم الحياة القاسية للتزاحم فيه .. وجرأة الناس على النفقة غير المرشدة سيؤدي إلى ارتفاع معدل الجرائم في المجتمع ، فالمرأة التي تعتاد التبذير قد يأتي عليها وقت يقل المال في يدها فتثير زوجها وتدفعه للشجار معها ، شجار قد يؤدي إلى قتلها إن ضاعفت من ضغطها عليه ، وما نقرأها من جرائم القتل الأسري كل يوم خير شاهد على ذلك .. والرجل الذي يتجرأ على النفقة غير المرشدة قد يضطر إلى البحث عن سبل غير مشروعة لتعويض تلك النفقة من اختلاس وسرقة ورشوة وغير ذلك .. وما أسمعه عن حوادث للسرقة بين طلبة وطالبات المدارس يندى له الجبين ، حيث صارت الأيام التي يُحصّل فيها مدرسو الدروس الخصوصية أجرتهم موسما للسرقة بين طالبات الثانوية العامة في الأرياف والمدن المشابهة لها ، إذ تترقب البنت من زميلاتها خلسة لتسرق منها المبلغ الذي أحضرته لمدرسها ؛ لتشتري به ما تتباهى به من أدوات التجميل وغيرها .. كما أن النفقة غير المرشدة أدت وما زالت إلى ارتفاع نسبة التسول ، فكل واحد أو واحدة إن لم يجد سبيلا يغطي به نفقته الزائدة سيلجأ للتسول ، وتكثر بذلك العالة على المجتمع .. ولذلك فإني أرى ألا تقحم الحكومة المؤقتة الحالية نفسها في زيادة المرتبات دون دراسة كافية ، وأن تتمهل حتى تنشط عجلة الإنتاج ويتحسن الاقتصاد فيكون للزيادات التي تقررها رصيد حقيقي ، وأن تلجأ بدلا من تلك الزيادات الوهمية إلى توعية الناس بأهمية ترشيد النفقة ، وبدلا من أن تزيد راتب الموظف الفقير أو المتوسط وهي لا تملك من الرصيد الاقتصادي ما يكافئ تلك الزيادة عليها أن تعلمه كيف يعيش بدخله ، وأن تقف بحزم تجاه الإعلانات التي تغري الناس بالإسراف في الكماليات ، والتي عمت الفضائيات بما فيها للأسف التي تسمي نفسها فضائيات إسلامية حتى إذا استقرت الأمور ونشطت عجلة الإنتاج في الدوران نظر المسئولون في المرتبات وأعادوا توزيعها توزيعا عادلا ، لا يبخس فيه صغير عن حقه ، ولا يزاد فيه كبير عن مستحقه ، وأن تحسن من وضع الموظفين الذين عاشوا دهرا من الزمن مهمشين .. فإن فعلنا ذلك وإلا كان مصيرنا انفجار يشبه انفجار البالونة بعد المبالغة في نفخها ، انفجار يتبعه تدهور غير مسبوق لقيمة الجنيه ، أو اللجوء إلى الاقتراض من الخارج اقتراضا يعود بنا على عصر الاستعباد الذي ألفناه منذ عصر الخديوي إسماعيل ، وما أكثر المنتظرين لاستعبادنا بزريعة الاقتراض وعلى رأسهم أمريكا التي تدق علينا الباب هذه الأيام !.. .. فهل من مدكر ؟!! *مدير موقع التاريخ الالكتروني