نحتاج إلى حقائب خاصة نحمل فيها همومنا وأتراحنا، فلم يعد فى الإمكان أحسن مما كان، وأضحينا نسلم بأن الأمس كان أفضل من اليوم، واليوم أفضل من الغد، ويملأنا خوف وقلق من الغد. ثورة 25 يناير كانت حلما أشبه بمعجزة، وتحقق هذا الحلم، خرج صانعوها من المساجد يوم الجمعة 28 يناير، صنعها المصلون بعد أن فرغوا من صلاتهم بتلك الجمعة المباركة، حين خرجوا كالمردة غاضبون يزمجرون، خرجوا بجلاليبهم وقمصانهم دونما سلاح أو دروع، وواجهوا رصاص قناصة الطاغية، وقابلوا بأجسادهم الضعيفة مدافع المياه ودهس المصفحات، واستنشقوا الغازات التى أسقطتهم أرضا، وأعمت أبصارهم .. وتمكنوا من إنزال هزيمة مروعة لقوات الطاغية، حتى جعلوهم يفروا كالجرذان الهاربة، يخلعون عن أجسادهم ثيابهم الرسمية. كانت ملحمة تعجز الأقلام عن وصفها، ووقف جيش مصر إلى جانب الثوار، حتى تم خلع الطاغية فى 11 فبراير 2011، وقدرنا لجيشنا العظيم هذا الموقف التاريخى، ونشرت مقالا فى هذا المكان بتاريخ 9 ابريل الماضى بعنوان "حين استدارت مدافع الدبابات"، ومازلت على موقفى تجاه هذا الجيش العظيم الذى يرابض على الثغور، يحمى الشعب والوطن، فأنا أكن له احتراما وتقديرا بلا أى تحفظ، لكن قادته الذين يشكلون "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" يبدو أنهم ركبوا قاربا صغيرا وسط بحر هادر، وفقدوا السيطرة عليه. هذا البحر اللجى الهائج هو "العمل السياسى"، وهم يفتقدون أدواته ومفاتيحه، وتركوا أنفسهم عرضة لموجات عاتية، موجة تقذفهم هناك، وأخرى تأتى بهم هنا، دون أن يعرفوا لماذا ذهبوا هنا أو هناك، فتلاشت وعودهم الجميلة للشعب التى أطلقوها فى الأيام الأولى لتقلدهم مهام حكم البلاد، وتضاربت قراراتهم وتناقضت، وتاهت عنهم علامات الطريق، وأمسى المجلس يتخبط فى مسيرته، وحل بأرض تحدق بها الأخطار، إن لم يغادرها فورا فسوف تدفع البلاد ثمنا باهظا. كان أول خطأ وقع فيه المجلس الحاكم، بعد أيام قليلة من توليه مقاليد حكم البلاد بشكل مؤقت، أن ذهب ثلاثة من أعضائه كضيوف بإحدى القنوات الفضائية الخاصة، تتحاور معهم مذيعة عليها الكثير من علامات الاستفهام، لقوة علاقتها بالسفارة الأمريكية وبالأمريكان، حتى أنهم استضافوها فى البيت الأبيض وأعطوها فرصة التحاور مع الرئيس الأمريكى الأسبق بوش، وهو ما لم يصل إليه اى إعلامى عربى من قبل. ذهب الثلاثة الكبار إلى مذيعة معروفة بعدائها للتيار الإسلامى، فى قناة صاحبها ليس فوق مستوى الشبهات، ويرتبط بعلاقات وطيدة مع أولاد مبارك، وبينه وبين سكرتير مبارك مشاريع ضخمة، أقاموها بقروض من البنوك الوطنية وتقدر بعدة مليارات، وكان المفروض أن يكون مع أصدقائه فى ليمان طرة، وإن شاء الله سوف يلحق بهم عما قريب، لأنه ممنوع من السفر وتجرى معه تحقيقات فى تكتم شديد. ترك الثلاثة أعضاء المجلس الحاكم تليفزيون الدولة الرسمى، وذهبوا بأنفسهم فى ضيافة سيدة ذات ورابط وثيقة بالإدارة الأمريكية، متناسين وضعهم الجديد اللذى أفرزته ثورة يناير العظيمة، وكان هذا اللقاء هو بداية الخروج عن "الصراط" والدخول فى متاهة لا تميزها حدود أو علامات. أرى أن من رسم وصمم هذه المتاهة التى دخل فيها المجلس العسكرى، هو يحيى الجمل، يحيى الجمل الذى كان نائبا لأحمد شفيق المعين من قبل مبارك، وهو الذى أتى بالمدعو عصام شرف رئيسا للحكومة الانتقالية، ومن خلاله حكم الجمل البلاد طيلة سنة أشهر، تمكن خلالهم من بذر بذور الفرقة والشقاق، فاختار أعضاء لجنة الأحزاب، والمجلس الأعلى للصحافة، ومجلس حقوق الإنسان، ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، واختار الوزراء والمحافظين، وغالبيتهم من المنتمين للحزب الوطنى، ولما اطمأنت نفسه بما فعل، ترك المسئولية، وتنحى جانبا ينتظر نتائج ما زرع. بعد استفتاء 19 مارس، عمت الفرحة، وغلبت حالة من التفاؤل نحو القادم، فإذا بالقادم يأتى أسوأ، ومرت الأيام، وكل يوم يأتى بأسوأ مما قبله .. فأعداء الثورة والوطن يعلمون تمام العلم أن الانتخابات التشريعية أو أى انتخابات إذا تمت بنزاهة سوف تحقق التيارات الإسلامية نصرا ساحقا، وهذا يؤرقهم، وهم يمتلكون المال والقدرة على توظيفه، فالصحف ملك يمينهم والفضائيات رهن إشارتهم، وهكذا منذ ذاك التاريخ بدأوا حربا مسعورة لتمديد فترة الحكم العسكرى، وما يتبعه ذلك من تكريس لحالة الفوضى والانفلات التى تعم أرجاء البلاد. لابد ان أسجل لهؤلاء تقديرى لأسلوبهم المنظم فى حروبهم حتى ولو كانت قذرة، لأنهم متعاونون، يبذلون الجهد والمال فى ضلالهم بنفس راضية، من أجل هدف يؤمنون به، فى الوقت الذى انشغلت فيه التيارات الإسلامية بإطلاق شعارات رنانة، وتشهد انقسامات واختلافات، ويمسكون أيديهم عن البذل فى سبيل نصرة هدفهم الأسمى والأعلى، يتصيدون الأخطاء لبعضهم، وينشغلون بقضايا شخصية، فى الوقت الذى نزل فيه العلمانيون والليبراليون والملحدون الميدان مثل جيوش الذباب التى تهب، فانتشروا من خلال الأبواق الإعلامية المختلفة، ونشروا الشائعات والضلالات، وعكروا صفو الجو بعد الثورة، ووضعوا أمام كل خطوة بناءة ألف عثرة، وباتوا قوة مؤثرة فى قرارات المجلس العسكرى. أى مجموعة تتألف من ثلاثة أو أربعة أشخاص يجتمعون فى مقهى يدخنون الحشيش ويحتسون الخمور، يتحول هذيانهم بعد ساعات فى الصحف والفضائيات إلى "تصريحات" هامة تتداولها فورا وسائل الإعلام العالمية (!!)، ومجرد شخص واحد منهم يجلس أمام كاميرا إحدى الفضائيات بدماغ "متكلفة" ويهذى بكلمتين، تتحول كلماته فورا إلى "مأثورات" تتداولها وسائل الإعلام التى يمتلكونها. مجموعة لا تمثل أكثر من 5% من تعداد الشعب المصرى، باتت هى التى تتحكم فى مصيره، وكل فرد نكرة مع صديق له يطلقان على نفسيهما "ائتلافا" يطلق تصريحاته كما يشاء على أنها موقف ائتلاف كذا (!!)، وكل ائتلاف يطلق عليه "قوة سياسية"، وأكثر من ائتلاف يطلق عليهم "قوى سياسية"، والمجلس الحاكم يستجيب لشطحات وترهات هؤلاء، فتأجلت الانتخابات التشريعية عدة شهور، والانتخابات الرئاسية باتت غيبا لا يعلم عنه أحد شيئا، وجاء قانون الانتخابات مخيبا لكل الآمال، إذ استجاب المجلس العسكرى لصوت العلمانيين، وقرر أن تجرى بالقوائم، وأرى أن الانتخابات بنظام القوائم لا يتناسب تماما مع الوضع السياسى الراهن فى مصر، ولا مع المجتمع المصرى، ولا مع المنطق، ومع ذلك تقرر أن تتم الانتخابات طبقا لنظام القوائم خوفا من أن يعتصم ساويرس فى التحرير، كما صرح بذلك بعد الاستفتاء بأنه إذا لم تتم الانتخابات بالقوائم سوف يعتصم فى التحرير (!!)، فأى نوع من العبث والهراء الذى يحدث فى مصر الآن؟!. من حقنا كشعب أن نعلن عدم رضائنا عن أداء المجلس العسكرى، ومن حقنا أن نفقد الثقة فى وعوده وعهوده، ومن حقنا أن نخرج إلى الشوارع مرة أخرى نطالب بتنحيه عن حكم البلاد، وتسليم السلطة لمجلس مدنى مؤقت، وهذه كانت مطالب العلمانيين، الذين انشغل المجلس باسترضائهم فأوقعوه فى الفخ القاتل، فبعدما كنا ندافع باستماته عن المجلس العسكرى، ونقول بأنه العامود الوحيد الذى يقوم عليه صلب البلاد الآن فى ظل غياب كافة مؤسسات الدولة، أصبحنا لا نريده، فعل العلمانيون بالمجلس ما يفعله الذباب بالأسد أو الفيل، حطوا على عيونه، فعمى بصره، ووقع فى الحفرة. كلمة أخيرة: قال الأنبا ثيؤدسيوس أسقف عام الجيزة فى نعيه لمطران الجيزة المطران دوماديوس الذى انتقل للأمجاد السماوية يوم 16 سبتمبر الماضى أن مطرانية الجيزة كان بها 13 كنيسة، وفى عهده (1985 2011) أصبح عدد كنائس مطرانية الجيزة 103 كنيسة، أى أن الجيزة منذ دخلت المسيحية مصر وعلى مدى 2000 سنة كان بها 13 كنيسة فقط، وخلال ربع القرن الأخير بنيت بها 90 كنيسة، ومازال الصراخ والعويل من الاضطهاد ومنع بناء الكنائس قائما!!. [email protected]