لنا الله نحن معشر المغتربين، كنا نتابع أخبار مصر عن بعد فيرسم لنا الإعلام صورة ذهنية عن مصر وكأنها صارت بيتا كبيرا يوشك أن يتهدم فوق أهله البؤساء والذئاب تحوم طوال الليل حوله فى انتظار أي فريسة تفكر فى الخروج. تخيلت أنني إذا نزلت مصر أن أجد فى استقبالي عصابة القناع الأسود بزيهم المخطط الشهير ونظاراتهم السوداء التي يتخفون بها، وهم يتنقلون فى الشوارع حاملين على ظهورهم أكياس النقود الكبيرة التى نهبوها جهارا نهارا. وتخيلت -وقد صارت بلادنا مرتعا للجريمة بأشكالها- أن أجد البلطجية يعيثون في أنحائها فسادا وهم يضحكون ضحكة شريرة كما تصور الأفلام العربية القديمة كفار قريش وهم يضحكون. وتخيلت أن مصر صارت غابة حقيقية تمرح فيها الشياطين ولم يعد فيها مكانا للقيم، وإذا سلمت على أخيك بيد فتحسس سلاحك بيدك الأخري تحسبا لأي غدر. وأن الفساد استشري إلى حد أن الحشيش صار السلعة الشعبية الأولي -مكان الفول- وأنه صار يباع عند البقالين وباعة الجرائد. وأن الهواية الأولي لجواسيس العالم الآن هي زيارة مصر والمرح فيها ثم التقاط الصور التذكارية فى شوارعها وبين أهلها ونشرها على الفيسبوك. وأن المليونيات صارت طقسا يوميا من طقوس المصريين وفرصة طيبة للأسر الراغبة فى الخروج والترفيه وأن مصر كلها تشاهد تلك المليونيات من شرفات البيوت. وأخذت أعد نفسي قبل النزول لأتقبل مشاهدة الإضرابات والمؤامرات والفوضي المنتشرة في كل مكان وأحظي برؤية السلفيين وهم يجوبون الشوارع باحثين عن ليبرالي لطيف يأكلون أذنه أو امرأة متبرجة يضرمون النار فيها. ورسم لي خيالي أفلاما بالغة الإثارة والسوء عن حال مصر وأهلها، وكان أول شيء في تفكيري عند النزول أن أذهب لأشتري سلاحا حتى أستطيع أن أتنقل فى المواصلات بأمان. باختصار تخيلت مصر عجوزا هدها المرض جالسة على شط النيل تمسح دموعها وتغالب أوجاعها جالسا من حولها أبناؤها يولولون على أمهم التى تحتضر. واعذرونا على هذه الصورة السوداوية التى رسمناها فمثلنا ومثل الثورة، مثل مباراة هامة لم يتح لنا متابعتها إلا من خلال المذياع فانفعالاتنا وتأثرنا لم تكن إلا نتاج ما ينقله المذياع وما يرسمه المذيع لنا فحسب، وهم الذين صوروا لنا أنه ليس بين مصر والضياع سوي شعرة واحدة. وهم الذين نقلوا لنا منذ ثمانية أشهر أن مصر مقبلة يقينا على مجاعة بعد أربعة شهور وأن الدولة ستفلس قبل رمضان، ولن يجدوا حتي رواتب موظفيها. والحمد لله أنني حين وطأت قدماي أرض مصر الحبيبة لم أجد من كل هذه الأوهام شيئا، ووجدت للمرة الأولي لافتة كبيرة تستقبل القادمين تقول للمصريين فقط –كما تفعل كل الدول التى تحترم أبناءها وتصون كرامتهم-، ولم يستغرق إنهاء الأوراق دقيقة واحدة بابتسامة من ضابط الجوازات مشفوعة بحمد الله على السلامة. وتجولت فى شوارعها وتنقلت بين مدنها ولم أجد سوي مصر التى تركتها والتى أعرفها هي التى تنتظرني، وجدت مصر التى يصر البسطاء على استيقاف سيارتك فى الطريق ليعطوك تمرا وماء تفطر عليهما. وجدت مصر التى تسير فيها مصرية منتقبة بجوار مصرية أخري يتدلي من صدرها الصليب، ولا يري أحد شيئا غريبا فى هذا المشهد. ومساجدها التى تغص بالمصلين والمعتكفين يصلون ويقرأون القرآن ويتهجدون بكل حرية. وشوارعها التى غطتها زينات رمضان وامتلأت بالأطفال يمرحون حتى منتصف الليل بكل أمان. ومقاهيها التى تعج بالجالسين وأصواتهم تجلجل وتملأ ضحكاتهم الدنيا بلا خوف. وجدت حارس الكنيسة المسلم وهو يفطر -كما المسلمين وقت المغرب- ولا يستدعي المشهد استغراب أحد. وجدت مصر التى تخرج عن بكرة أبيها تكبر للعيد ويتبادلون التهاني والأماني والأطفال بملابسهم الجديدة وألعابهم البلاستيكية وبالوناتهم الملونة يملأون الحياة بهجة. وبعد ذلك زرافات التلاميذ وهم يمضون في الصباح الباكر قاصدين مدارسهم كأسراب العصافير الوادعة. حمدت الله أنني وجدت مصر الحقيقية وليس مصر الفضائيات، و تعلمت أن مصر ليست ميدان التحرير وأنها ليست فلانا أو علانا وأنها أكبر من ذلك كله. ولولا أنني أعلم يقينا أن ثورة ما قد حدثت فى هذا البلد فإني اجزم ألا شيء تغير فى مصرنا، نعم لم أجد مصر وقد أضحت بين يوم وليلة جنة الله فى أرضه وهي لم تكن كذلك قبل الثورة، لكنها لم تكن كذلك غابة تمرح فيها الشياطين كما صوروها. والحوادث التى يتحاكي الناس عنها ناسبين إياها للثورة المسكين ليست عرضا جديدا على وجه مصر، وظني أن معدلاتها لا تزيد كثيرا –وأشك فى زيادتها- عن معدلات الجريمة قبل الثورة. الفارق الأساسي أن مصر أيها السادة أصبحت كمن بدل ثوبا قديما متسخا مهلهلا بثوب أبيض ناصع فصار أقل ما يصيبه ملاحظا من كل الناس الذين نسوا أن أضعاف ذلك من القذارة والثقوب كان يملأ الثوب القديم، لكنها كانت مستترة بما أحاط بها من قاذورات أكبر. يا إعلاميي مصر الفضلاء .. رفقا بنا .. ورفقا بثورتنا .. ورفقا بمصرنا .. عار ألا تكونوا أمناء فى النقل والتصوير .. انقلوا الايجابيات قبل السلبيات ولا تقولوا هلكت الثورة، فللثورة نصف ممتلئ لا تغفلوه يرحمكم الله.