خاطرة راودتنى جالساً فى سيارتى وأنا لا أتحرك إلا حوالى عشرة أمتار منذ ساعة ونصف، خاصة بعد أن علمت أن ثمة سائقى ميكروباص أفاضل ومتحضرين، قد قرروا وبدون سابق إنذار أن يجعلوا من ناصية الشارع الذى أسكن فيه موقفا جديدا لهم، وحينما حيَّانى أحدهم قائلا بمنتهى القرف "لامؤاخزه يا برنز"، تخيلت بينى وبين نفسى ماذا لو حكم هؤلاء مصر؟ أعلم جيدا أنه سؤال افتراضى وتخيلى، ولكننى وجدت أن هؤلاء البرنزات يسيطرون سيطرة كاملة على الشارع بأعداد غفيرة قد تفوق أعداد الأمن المركزى بمراحل، فسألت نفسى حائراَ ومن هؤلاء أصلا؟ من أين أتوا؟، وهل كانت أعدادهم هكذا من قبل؟، أم كانت الشرطة فعلاً قادرة على إخفاء هذه الصورة عن سكان شارعنا؟ تخيلت أحدهم يكتب برنامجاَ انتخابياَ، ويجلس فى صوان يناقشه، ويذيع صيته فى أنحاء الجمهورية، خاصة وأن كل منطقة فى مصر محاطه بعشوائيات لا حصر لها، وينتخب من الشعب، أو ينجح بطرق أخرى كما نجح من قبله، المهم أنه نجح، ودخل يحلف اليمين مرتدياَ القميص المشجَر، ضارب جيل فى شعره، ومتحمس لقيادة مصر فى الفترة القادمة، وقد استعد لإذاعة بيان هام أمام الشعب، هتف بحماس عن أن كل المواطنين عنده برنزات وتمام التمام قوى، وأنه قرر تغيير النشيد الوطنى من "بلادى بلادى" إلى "العبد والشيطان" أغنية الميكروباصات الشهيرة، لما لها من أثر فى نفس الركاب، أقصد المواطنين، ورأى أيضا أن ألوان العلم قديمة توحى بعصر الظلم السالف، وأنه يريد علم مشرق يدل على التقدم المزدهر الذى ستشهده مصر على يده الكريمة، واقترح على أن يتغير إلى أشكال مزركشة ومشجرة تماما مثل شكل قميصه. شردت بذهنى كثيرا، حتى كادت سيارتى أن تصطدم بالميكروباص القادم عكس اتجاه الطريق، وانتبهت أن من أسميهم هؤلاء ومن أخاف منهم، هم من أهل مصر، وهم ليسوا بالقليل، بل هم من همشهم النظام السابق، حتى صارت ثقافتهم هى الفوضى نفسها، وأن لنا كمصريين واجبا نحو هذه الشريحة وهذه الشريحة بالذات، لذلك فقد قررت أن أتحاور حوارا عقلانيا مع أحدهم، وظللت أتربص حتى أجد فريستى، حتى وجدته، كان يقف فى وسط الشارع كعادته، متباهياً بميكروباصه، مستعرضاً مهاراته فى القيادة وهو يقفز بالميكروباص قفزة نخعية وكأنه يهدد من يعبر بجواره بأنه جاهز للإقلاع، دخلت دون خوف، وأنزلت زجاج الباب الأمامى وراودتنى نفسى برفع صوتى يمكن يرتجع "يعنى ينفع كده يا ريس، الشارع كله واقف وراك" قلتها وأنا أقسم بالله العظيم لم أكن أعلم أن كلمة "ياريس" قبيحة، صرخ وكأننى سببته بأمه، "ريس مين يا بشمهندز، الريس خلاص اتخلع، ودى جمهورية الميكروباز"، ثم أدار وجهه وكأننى ذبابة، وقفز بالميكروباص قفزه بهلوانية ليقطع أمامى الطريق، وأنا فى حالة ذهول، كيف لهذا السائق العبقرى أن يقرأ أفكارى بكل هذه الشفافيه ليعلم أن الجمهورية القادمة ستكون للميكروباص. عزيزى القارئ الكريم، هذه القصة البسيطة إنما هى انعكاس لاختلاف الثقافات فى مصر، وما أكثرها، ولأن الحوار قد غاب طويلاً فقد اتسع قطر الفجوة بينها لتكون دويلات صغيرة بداخل الدولة الكبيرة، وعندما جاءت ثورتنا النبيلة لتتقدم بنا إلى الأمام، راجين من الله أن يرفع شأن بلادنا، كان من الواجب أن نبدأ أولا من تغيير أنفسنا، وانعكاس ذلك على سلوكياتنا، وأن نكون قدوة لغيرنا، وأن نفهم أن الاختلاف بيننا وارد ومقبول، وأنه مع كل نظام ستظهر معارضة من نوع جديد، وعلينا أن نحاول أن نفهمها ونستغلها فى صالحنا، لقد توقف الميكروباص بعد عدة أمتار، ونزل منه السائق واقترب من سيارتى، فظننت أنه سيدمر زجاج السيارة ويقتلنى، فوجدته وقد ابتسم وقال لى "ماتزعلش منى يابرنز"، ابتسمت واندهشت وقلتله "صباحك فل يا أسطى، بس خلى بالك إنك لسه واقف بالعربية فى نص الطريق ونازل بتكلمنى".