واقعة مقتل واحد وعشرين مواطنا مصريا ذبحا بطريقة وحشية في ليبيا حدث مؤلم بكل المقاييس ، ككل أحداث القتل والموت العشوائي أو الظالم ، ولكن تلك الواقعة كان الألم فيها مضاعفا لأكثر من سبب ، أولها أن هؤلاء الضحايا لا ذنب لهم أبدا في أي خلاف سياسي من أي نوع ، وربما أغلبهم لا يعرف شيئا عن السياسة من بابها إلا ربما اسم الرئيس ، فكيف يتم الاعتداء عليهم بتلك الوحشية وبدون أي سبب على الإطلاق ، وثانيها أن هؤلاء المساكين أخذوا على غرة ، وعندما تتأمل في وجوههم تملأك المرارة وأنت تحاول أن تعايش تلك اللحظة في نفوسهم ، كأنه كابوس وحلم وليس حقيقة ، فجأة وجدوا رقابهم في يد جلاد مجرم لا يعرف دينا ولا خلقا وهو يستعد لذبحهم ذبحا ، ولا يعرفون لذلك سببا ولا معنى ولا حتى حقيقة ، وثالثها أن هؤلاء الضحايا جميعهم من الفقراء والمهمشين والبائسين ، وقد نقلت الصحف والكاميرات مناطق عيش أسرهم في صعيد مصر ، وما كانت أسرهم لتنتظر مزيدا من البؤس بنبأ مقتلهم ، كلهم من الذين هاجروا هناك من أجل البحث عن لقمة عيش ورزق كريم ، ويعملون في مهن شاقة وصغيرة ومضنية من أجل إعالة عائلاتهم أو علاج مرضاهم ، هؤلاء هم الذين استأسد عليهم هذا التنظيم الغامض والخطير واصطنع بطولة مزيفة بخطفهم وقتلهم ، ورابعا الطريقة الوحشية التي قتلوا بها ، إنهم لم يقتلوا بالرصاص مثلا ، بل تعمد القتلة أن يذبحوهم بشكل مروع وحقير ، ويصورون عمليتهم كما لو كانت بطولة حربية على هؤلاء العزل الغلابة ، والحقيقة أن الجبناء وحدهم هم الذين يفعلون ذلك ، وخامسا وأخيرا ، أن يجتمع على أسرهم وعليهم أيضا مرار الغربة مع مرار الخطف والخوف والقتل الظالم . هي مأساة بكل المقاييس ، وأسأل الله أن يصبر آباءهم وأمهاتهم وأسرهم جميعا ، وحسنا فعل شيخ الأزهر بإرسال وفد رفيع المستوى لمواساة تلك الأسر في محنتها والتخفيف عنهم ، وأرجو أن يفعل البابا تواضروس مثل ذلك بوفد من الكاتدرائية الأم ، فهؤلاء المكلومون في أمس الحاجة إلى الدعم النفسي الآن والإحساس بقرب الناس وعطفهم . بطبيعة الحال ، فإن القتلة لا بد أن يعاقبوا على جريمتهم ، ويدفعوا ثمنها كاملا ، ولكني قلق كثيرا من الضغوط الإعلامية التي تتعرض لها المؤسسة العسكرية بسرعة التدخل والردع في ليبيا ، فهذا خطر كبير ، والحرب ليست لعبة ، كما أن الوضع في ليبيا معقد ، وداعش ليس لها وجود قوي هناك ، فهي مجموعة صغيرة تتركز في بعض مناطق مدينة "سرت" وسط ليبيا ، وهي معقل أنصار القذافي وفلوله ، والغريب أن معسكرات داعش هي الوحيدة التي نجت من قصف طيران اللواء المتقاعد خليفة حفتر ، رغم أنه قصف شرق ليبيا وغربها وجنوبها ، ولم يترك مكانا لمعارضيه إلا قصفه ، إلا قواعد داعش ، وهو ما يلقي بظلال كثيفة من الشك حول طبيعة العلاقة بين داعش وقوات حفتر ، وكان أحمد قذاف الدم ، حليف حفتر ورجل القذافي القوي ، والمقيم في القاهرة مع الأسف ، قد أجرى حوارا قبل حوالي شهر مع وائل الإبراشي وأعلن فيه تأييده الكامل لتنظيم داعش ووصف مقاتليه بأنهم أتقياء أنقياء ، وأن ظهورهم كان بسبب الظلم وأنهم تأخروا عن الظهور خمسين عاما ، وهي المفاجأة التي أذهلت كل من تابع اللقاء . داعش ورقة استخباراتية مهمة للغاية في يد بعض الأنظمة ، وقد لعبها بشار الأسد باحتراف ، بعد أن فشل في قمع الثورة السورية واحتشد الشعب ضده وأصبح الجيش السوري الحر على أبواب دمشق ، فأخرج بشار ورقة داعش ومكنها وحماها حتى توحشت وخلطت الأوراق فأفسدت الثورة وجعلت العالم ينظر للوضع في سوريا باعتباره حربا على الإرهاب وليست ثورة شعبية ضد نظام دموي مجرم وفاسد ، وكان كثير من قيادات داعش ومؤسسيها في سجونه قبلها ، اللعبة ذاتها يبدو أنها تتكرر في ليبيا ، حيث فشل خليفة حفتر بميليشياته من أن يكون له حضور على الأرض وبدأ يمنى بالهزائم وقتل قادة كبار له في الآونة الأخيرة ، فكأن أن حرك ورقة داعش لخلط الأوراق في ليبيا ، واستعداء العالم على حكومة المؤتمر الوطني في طرابلس العاصمة والتي تدير معظم مناطق التراب الليبي ، وضمان استدراج جيوش بالمنطقة أو بالعالم من أجل التدخل ودعمه وتمكينه من السيطرة على ليبيا ، وهي مفارقة غريبة أن يكون قيادة داعش الليبية من بؤرة نفوذ فلول القذافي ، وقيادة داعش العراقية والسورية من مقاتلي جيش صدام السابقين أيضا . أتمنى أن لا يكون هناك موقف متعجل من قواتنا المسلحة ، وأتمنى أيضا أن تكون هناك مراجعات سريعة للاستراتيجية التي تتعامل به مصر الآن وفي المستقبل مع الأزمة الليبية ، لأن هناك أخطاء فادحة سبق وكتبت عنها مرارا وتكرارا ، فنحن لنا حوالي مليون مواطن هناك يعملون ، كما أن من يراهن عليهم السيسي في ليبيا لا يسيطرون فعليا على الأرض إلا مساحة صغيرة في أقصى الشرق ، والولايات المتحدة وأوربا مدركة تماما لهذا التعقيد ولذلك رفضت مرارا فكرة التدخل العسكري في ليبيا ، لأن عواقبه أخطر كثيرا ، وربما تولد لنا حالة سورية جديدة تنتعش في ظلها الحركات المتطرفة ، وكان لافتا بيان البيت الأبيض فجر اليوم عندما قال أن واقعة قتل المواطنين المصريين في ليبيا تؤكد حاجة هذا البلد إلى "حل سياسي" ، في إشارة إلى أن التفكير في الدعم العسكري لطرف على حساب آخر لن يحل قضية الإرهاب ولن يساعد على إنقاذ ليبيا والمنطقة من الكارثة .