كنت قد نويت الكتابة هذا الأسبوع عن " الأسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة " لعالم الإنسانيات والمفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي ، حيث يشرح فيها الاستراتيجيات العشرة التي تعتمدها الحكومات و مراكز صنع القرار السياسي في التحكم و التلاعب بعقول جموع الناس بغرض السيطرة على تفكيرهم و من ثم أفعالهم . إلا أن فاجعة مجزرة إستاد 30 يونيو ، و التي وقعت في ذكرى مجزرة ملعب بورسعيد التي راح ضحيتها 72 من مشجعي النادي الأهلي ، جعلتني أغير قبلتي شطر الأحداث الدامية ، و عندما بدأت كديدني في تحليل ما حدث ، وجدت أن ألأحداث لا تعبر إلا عن هذه الاستراتيجيات ، و لا مناص من أن أعرضها و لو في إيجاز قبل القفز على أي استنتاجات أو تحليلات
الاستراتيجيات العشر للتحكم في الشعوب هي استراتيجيات مطبقة في دول العالم ، قد استند تشومسكي عند شرحه لها ،على وثيقة غاية في السرية يرجع تاريخها إلى 1979 و تم العثور عليها سنة 1986 بالصدفة البحتة ، و كانت تحمل اسما مثيرا و هو " الأسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة " و هي عبارة عن كتيب إرشادي و دليل للتحكم في البشر و تطويع المجتمعات للسيطرة على مقدرات الدول .
( ملحوظة : تم اقتباس الشرح المترجم من كتاب المفكر الأمريكي " ٍSilent Weapons for Quite Wars " )
1- إستراتيجية الإلهاء و التسلية عنصر أساسي لتحقيق الرقابة على المجتمع ، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية ، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه , في مقابل شحّ المعلومات وندرتها. وهي استراتيجية ضرورية أيضا لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية في مجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب ، وعلم التحكم الآلي. "حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية ، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها . أبقوا الجمهور مشغولا ، مشغولا ، مشغولا ، لا وقت لديه للتفكير ،و عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات.
2- إستراتيجية افتعال الأزمات و المشاكل وتقديم الحلول كما يسمّى هذا الأسلوب "المشكلة/ التّفاعل / الحلّ". يبدأ بخلق مشكلة , وافتعال"وضع مّا" الغاية منها انتزاع بعض ردود الفعل من الجمهور ، بحيث يندفع الجمهور طالبا لحلّ يرضيه. على سبيل المثال : السّماح بانتشار العنف في المناطق الحضرية ، أو... تنظيم هجمات دموية ، حتى تصبح قوانين الأمن العام مطلوبة حتّى على حساب الحرية. أو : خلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحدّ من الحقوق الاجتماعية وتفكيك الخدمات العامّة , ويتمّ تقديم تلك الحلول المبرمجة مسبقا , ومن ثمّة, قبولها على أنّها شرّ لا بدّ منه
3- إستراتيجية التدرّج لضمان قبول ما لا يمكن قبوله يكفي أن يتمّ تطبيقه تدريجيّا على مدى 10 سنوات. بهذه الطريقة فرضت ظروف اقتصاديّة و اجتماعيّة مثّلت تحوّلا جذريّا كالنيوليبراليّة و ما صاحبها من معدلات البطالة الهائلة و الهشاشة والمرونة .... العديد من التغييرات التي كانت ستتسبّب في ثورة إذا ما طبقت بشكل وحشيّ, يتمّ تمريرها تدريجيّا وعلى مراحل
4- .إستراتيجية التأجيل هناك طريقة أخرى لتمرير قرار لا يحظى بشعبية هو تقديمه باعتباره "قرارا مؤلما ولكنّه ضروريّ "، والسّعي إلى الحصول على موافقة الجمهور لتطبيق هذا القرار في المستقبل. ذلك أنّه من الأسهل دائما قبول القيام بالتضحية في المستقبل عوض التضحية في الحاضر. و لأنّ الجهد المطلوب لتخطّي الأمر لن يكون على الفور. ثم لأنّ الجمهور لا يزال يميل إلى الاعتقاد بسذاجة أنّ "كلّ شيء سيكون أفضل غدا" ، و هو ما قد يمكّن من تجنّب التضحية المطلوبة. وأخيرا ، فإنّ الوقت سيسمح ليعتاد الجمهور فكرة التغيير و يقبل الأمر طائعا عندما يحين الوقت
5- مخاطبة الجمهور على أنّهم قصّر أو أطفال في سنّ ما قبل البلوغ معظم الإعلانات الموجّهة للجمهور العريض تتوسّل خطابا و حججا وشخصيات ، أسلوبا خاصّا يوحي في كثير من الأحيان أنّ المشاهد طفل في سنّ الرضاعة أو أنّه يعاني إعاقة عقلية. كلّما كان الهدف تضليل المشاهد , إلاّ وتمّ اعتماد لغة صبيانية. لماذا؟ "إذا خاطبت شخصا كما لو كان في سنّ 12 عند ذلك يستوحي إليه أنّه كذلك وهناك احتمال أن تكون إجابته أو ردّ فعله العفوي كشخص في سنّ 12 ".
6- مخاطبة العاطفة بدل العقل التوجّه إلى العواطف هو الأسلوب الكلاسيكي لتجاوز التحليل العقلاني ، وبالتالي قتل ملكة النقد. وبالإضافة إلى أنّ استخدام السجل العاطفي يفتح الباب أمام اللاوعي ويعطّل ملكة التفكير، ويثير الرّغبات أو المخاوف والانفعالات
7- إغراق الجمهور في الجهل والغباء لابدّ من إبقاء الجمهور غير قادر على فهم التقنيات والأساليب المستعملة من أجل السيطرة عليه واستعباده. "يجب أن تكون نوعية التعليم الذي يتوفّر للمستويات التعليميّة الدنيا سطحيّا بحيث تحافظ على الفجوة التي تفصل بين النخبة و العامّة و أن تبقى أسباب الفجوة مجهولة لدى المستويات الدنيا"
8- تشجيع الجمهور على استحسان الرداءة تشجيع العامّة على أن تنظر بعين الرضا إلى كونها غبيّة و مبتذلة و غير متعلّمة
9- تحويل مشاعر التمرّد إلى إحساس بالذّنب دفع كلّ فرد في المجتمع إلى الاعتقاد بأنّه هو المسئول الوحيد عن تعاسته ، وذلك بسبب عدم محدوديّة ذكائه و ضعف قدرته أو جهوده. وهكذا ، بدلا من أن يثور على النظام الاقتصادي يحطّ الفرد من ذاته و يغرق نفسه في الشّعور بالذنب ، ممّا يخلق لديه حالة اكتئاب تؤثر سلبا على النشاط . و دون نشاط أو فاعليّة لا تتحققّ الثورة
10- معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذاتهم على مدى السنوات ال 50 الماضية ، نتج عن التقدّم السّريع في العلوم اتّساع للفجوة بين معارف العامة وتلك التي تملكها و تستخدمها النّخب الحاكمة. فمع علم الأعصاب وعلم الأحياء وعلم النفس التطبيقي وصل "النظام العالمي" إلى معرفة متقدّمة للإنسان ، سواء عضويّا أو نفسيا. لقد تمكّن "النظام" من معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذاتهم . وهذا يعني أنه في معظم الحالات ، يسيطر "النظام" على الأشخاص ويتحكّم فيهم أكثر من سيطرتهم على أنفسهم.
حادث إستاد 30 يونيو الدامي أتعجب من اعتراف المسئولين في الحكومة بوجود تقصير أمني في الحفاظ على حياة المواطنين و استتباب الأمن و ما صاحب ذلك من ازدياد في حالات البلطجة المسلحة و الاختطاف و السرقة بالإكراه دون وجود حلول أمنية ، و السماح في ذات الوقت بعمل مباريات في ظل هذا المناخ الغير آمن ، و بالنظر إلى الإستراتيجية رقم 1 و تطبيقها على الحال المصري ، نستطيع القول بأن استمرار المباريات الرياضية في ظل تلك الظروف الغير مشجعة يصب في وعاء إلهاء الشعوب ، لصرف أنظارهم عن الظروف الصعبة التي تمر بها مصر سياسيا و اقتصاديا .
و بالنظر إلى إستراتيجية رقم 2 و ما حدث من ضغوط لرئيس نادي الزمالك على وزارة الشباب والرياضة في مطالبته بعودة الجماهير ، وضغط الوزارة بدورها على الداخلية و استجابة الأخيرة لطلبه ، نستطيع الاستنتاج بدون خطأ كبير ، أن اليوم كان لا بد و أن ينتهي بأزمة ، خاصة و أن تصريح مرتضى منصور أن الدخول سيكون مجاني بدون تذاكر أتى في نفس توقيت إنشاء قفص حديدي ضيق ينظم دخول الجماهير قبل المباراة بيوم واحد فقط ، مما أدى إلى إصابة الجمهور أثناء التدافع ، و حصارهم وسط سحب الغاز المسيل للدموع ، ليتساقطوا الواحد تلو الآخر تحت الأقدام .
و حول دور الإعلام المصري في تعاطي ما حدث ، وجه إعلاميون معروفون بركاكة أداؤهم الإعلامي ، رسالة إلى الجمهور المصري مفادها أن ثمن حضور مباراة بدون تذاكر هي القتل بدون رحمة أو شفقة ، و بالتطبيق على إستراتيجية رقم 5 ، نجد أن الرسالة لا تختلف كثيرا عن مخاطبة أطفال قصر ، إذا لم تدفع ثمن لوح الشيكولاته لا تلوم " عمو " صاحب السوبرماركت إذا قام بقتلك !
ثم لوم المسئولين للشعب عن أنهم سبب توقف أي عملية تنموية ، بسبب عدم اشتراكهم في محاربة الإرهاب ، و تأثير حادث الاستاد و غيره من الأحداث على مستقبل أي تنمية في المستقبل ( إستراتيجية رقم 9 )
الاستراتيجيات السابقة ، ليست خيالية ، و يبدو أنها تطبق منذ عقدين على الأقل في الداخل المصري بمكوناتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، ومعرفتها تزيل إلى حد كبير الغموض الذي صاحب التشدد في الحفاظ على مستوى ركيك من التعليم و الأداء الإعلامي و ما صاحب ذلك من جلد للذات و لومها عن الوضع الذي تقبع فيه بعيدا عن لوم النخب السياسية التي انتخبت لهذا الغرض .
العالم تغير ، و الحدود زالت ، و أصبح العالم قرية صغيره ، وما صلح بالأمس لن يصبح ذي جدوى مستقبلا حتى لو صلحت الممارسة و التطبيق ، فالنتائج ستكون كارثية ،إذا لم يغير الحكام خططهم وفقا لمعطيات العصر الجديد، و سيجدون أنفسهم في مواجهة مستقبلية مع جموع جاهلة جائعة غبية غير متفهمة تدمر الأخضر و اليابس على نحو لن يستطيعوا بعدها حكمهم حتى لو تبنوا إصلاحات جادة و برامج تنموية حقيقية تأتي بعد فوات الأوان .